اخبار السعودية
موقع كل يوم -جريدة الرياض
نشر بتاريخ: ١٣ تشرين الأول ٢٠٢٥
الدكتور أسامة فقيها *
ليست الأرض والمياه مجرّد موارد طبيعية؛ بل عنصران حاسمان في استقرار الدول ونهوض الحضارات، وعلى مر العصور، كان اضطرابهما كفيلًا بتغيير مسارات التاريخ؛ فعندما ضرب الجفاف حضارة المايا، انهارت منظومتها الزراعية، وفي ثلاثينيات القرن الماضي، تسببت عواصف الغبار في الولايات المتحدة في إحداث دمارٍ واسعٍ للأراضي الزراعية، ونزوحٍ جماعي، وشللٍ اقتصادي.
هذه الوقائع ليست أزماتٍ بعيدة في بلادٍ بعيدة، وهي بالتأكيد ليست مجرد فصولٍ من الماضي؛ بل رسائل تحذيرية متكررة: تدهور الأراضي والجفاف قد يتحولان إلى أزماتٍ وجودية، تزعزع استقرار دولٍ بأكملها، حتى في أكثر الاقتصادات تقدمًا.
واليوم، نواجه أزمة لا تقل خطورةً، لكنها تتجاوز في نطاقها ما شهده التاريخ من قبل؛ إذ باتت ذات طابع عالمي، في السياق، تشير التقديرات إلى أن نحو 40 % من أراضي العالم بات متدهورًا، وأن ثلاثة أرباع المراعي تشهد تراجعًا متسارعًا في قدرتها الإنتاجية، وفي الوقت ذاته، تتفاقم موجات الجفاف وتزداد حدتها وتطول مدتها؛ مما يُهدّد بتشريد نحو 700 مليون شخص بحلول عام 2030، وعليه لم يعد هذا التحدي محدود النطاق، بل أصبح حالة طوارئ عالمية شاملة، تمس أمن المجتمعات، ومسارات التنمية في مختلف أنحاء العالم.
لا توجد منطقة آمنة
غالبًا ما يُنظر إلى الجفاف، وتدهور الأراضي على أنهما مشكلتان تخصّان دول الجنوب العالمي؛ إلا أن تأثيرهما يتجاوز الحدود الجغرافية بكثير، ففي عالمنا شديد الترابط اليوم، يؤدي تدهور الأراضي الزراعية في منطقةٍ ما، إلى اضطرابات عالمية تتمثل في ارتفاع أسعار الغذاء، ونقص الإمدادات، وتقلبات السوق، وهذا يعني أن أي أزمة جفاف في أفريقيا قد تُحدث اضطرابًا سريعًا في أسواق الغذاء والطاقة في أوروبا وآسيا وأمريكا الشمالية.
لكن العواقب تتجاوز بكثير الجوانب الاقتصادية؛ إذ تُسرّع الأراضي المتدهورة من فقدان التنوع البيولوجي، وتُقوّض الأمن الغذائي والمائي، وتُفاقم ضغوط الهجرة العابرة للقارات، وتتحمل المجتمعات في جميع أنحاء دول الجنوب العالمي هذه الأعباء بالفعل، فيما يمتد تأثير عدم الاستقرار الناجم عن الجفاف وتدهور الأراضي إلى جميع أنحاء العالم في نهاية المطاف.
وعليه، فإن تعزيز الإدارة المستدامة للأراضي وبناء القدرة على الصمود، لا يحمي مناطقنا وشعوبنا واقتصاداتنا فقط؛ بل يُسهم أيضًا في ترسيخ الاستقرار والأمن العالميين.
قيادة المملكة لـ(COP16)
وانطلاقًا من إدراكها العميق لحجم التحدي، وأهمية توحيد العمل الجماعي، استضافت المملكة العربية السعودية، المؤتمر السادس عشر لأطراف اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر (COP16) في الرياض عام 2024م، وقد مثّل المؤتمر نقطة تحول فارقة، إذ يُعدّ أكبر مؤتمر لأطراف اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر، وأكثرها تنوعًا وشمولًا في تاريخ الاتفاقية؛ حيث جمع أكثر من 100,000 مشارك، وأكثر من 820 فعالية جانبية، ولأول مرة، وُضعت قضية الأراضي والجفاف في صميم جدول الأعمال البيئي الدولي.
وشهد مؤتمر الأطراف السادس عشر، تركيزًا غير مسبوق على تعزيز التنسيق والتكامل بين اتفاقيات ريو الثلاث -المناخ، والتنوع البيولوجي، والتصحر-، إدراكًا للترابط الوثيق بين الأرض والمناخ والطبيعة، وقد تم خلال المؤتمر، إطلاق نحو 38 مبادرة، أبرزها مبادرة شراكة الرياض العالمية لتعزيز الصمود في مواجهة الجفاف (RGDRP)،التي أطلقتها المملكة العربية السعودية، ونجحت في حشد أكثر من 12 مليار دولار أمريكي، وتركز على تعزيز القدرة على مواجهة الجفاف في 74 دولة من أكثر الدول عرضةً للتأثر، كما أطلقت المملكة مبادرة 'قطاع الأعمال من أجل الأرض' (B4L)، التي تهدف إلى تعزيز مشاركة القطاع الخاص في جهود المحافظة على الأراضي والحد من تدهورها.
وعزّزت المملكة هذه الجهود بإطلاق مبادرة دولية لرصد العواصف الرملية والترابية، ضمن نظام إنذار مبكر إقليمي لهذه الظواهر، في خطوة توفر دعمًا قويًا لأنظمة الإنذار المبكر العالمية، وتسهم بفعالية في دعم قدرة المجتمعات الأكثر عرضةً للمخاطر في جميع أنحاء أفريقيا وآسيا على التكيف والصمود.
وقد تجلّت رؤية القيادة السعودية بوضوح في هذا الخصوص، حيث أكدت أن حماية الأراضي ليست مجرد واجب بيئي، بل هي أيضًا ضرورة إنسانية واقتصادية، فالأراضي السليمة تشكّل الأساس للأمن الغذائي والمائي، وتدعم استقرار الطاقة، وتعزّز قدرة المجتمعات على الصمود في كل مكان.
المملكة توحّد الجهود في الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة
في سبتمبر الماضي، وخلال الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، حرصت رئاسة (COP16) على إيصال هذه الرسالة بوضوح، ومن خلال سلسلة من الحوارات رفيعة المستوى، جمعت الرئاسة قادة العالم، وبنوك التنمية، والمؤسسات الخيرية، والعلماء، ورواد القطاع الخاص؛ بهدف تسريع وتيرة إيجاد حلول عملية للتحديات المشتركة.
وتمثَّل محور هذه الجهود، في فعالية نظمتها رئاسة (COP16) حول الجفاف وتدهور الأراضي، بهدف الحفاظ على الزخم، وضمان انتقال الالتزامات التي أُطلقت في الرياض إلى أولان باتور، خلال مؤتمر الأطراف السابع عشر (COP17) في عام 2026. واستقطبت الفعالية وزراء وممثلين عن الدول، ووكالات الأمم المتحدة، والقطاع الخاص، والمنظمات غير الحكومية؛ لتعزيز التمويل والشراكات المبتكرة، وسلّطت جلساتٌ أخرى الضوء على أهمية تمويل الزراعة القادرة على الصمود، وتمكين المجتمعات، من خلال نظمٍ غذائية مبتكرة.
*وكيل وزارة البيئة والمياه والزراعة للبيئة، ومستشار رئيس مؤتمر الأطراف (COP16)