اخبار فلسطين
موقع كل يوم -وكالة شمس نيوز
نشر بتاريخ: ٢٦ تموز ٢٠٢٥
41 عاماً من الأسر لم تُحرّك أحداً في الدولة اللبنانية لاستقبال جورج عبد الله بما يليق به. فالرّجل الآتي من فرنسا لا يحمل سوى صفة المقاوم المناضل الذي قضى أكثر من نصف عمره في زنزانة بلاد «الرجل الأبيض» الذي يُعلّمنا، نحن كدول العالم الثالث، أصول الديموقراطية والحريات وحقوق الإنسان. وصفة رجل هزم الغرب بعدم الاعتذار مقابل الإفراج عنه. أصر جورج أن يكون مقاوماً يشبه شعباً بأكمله، بينما أصرّت الدولة اللبنانية أن تتصرف كواحدة من أذناب الأنظمة الغربيّة. فلو كان موفداً أجنبياً يحمل تهديدات الويل والثبور للشعب اللبناني ورسائل التهويل، لكان مسؤولو الدولة اللبنانية جهزوا أنفسهم لـ«حفلة محاباة» بأرفع تمثيل سياسي، ولكانت أبواب القصور فتحت أمامه، ولكانت سيّدات المجتمع المُخملي تأنقت لاستقباله.
ولكن جورج مناضل متّهم بقتل ديبلوماسي أميركي وآخر إسرائيلي، وفرنسيين. وفي بلاد الأرز، يخاف المسؤولون من «زعل» الأميركيين والفرنسيين! يصفقون لديبلوماسييها متى تحدثوا عن التطبيع مع العدو الإسرائيلي، ولكنّهم يختفون في استقبال مقاومٍ يحمل الجنسية اللبنانيّة. ولذلك، غابت الدّولة بمعظم أركانها عن استقبال رمز من رموز المقاومة، الذي جابه النفاق الغربي الذي يزعم استقلاليّة قضائه والتزامه بقوانينه.
لم يكن المتظاهرون الذين احتشدوا لساعات في باحة مطار بيروت الدولي تحت أشعة الشمس الحارقة، وفي ظلّ إجراءات أمنيّة مشدّدة وكأنّهم من بلدٍ آخر، ينتظرون حضوراً رسمياً. كما لم يكن جورج يحتاج حينما وطأت قدماه أرض بيروت أن يرى شخصيّة رسميّة. فهو الذي بقي في وجدان الشعب اللبناني على مدى 41 عاماً لا يحتاج إلى اعتراف دولة خاضعة، أظهر «اختفاؤها» عن الاستقبال الرسمي مشهد خنوعها بالصوت والصورة مقابل مشهد التحرر من التبعية الذي مثله جورج.
إجراءات أمنية مشدّدة
ولذلك، لم يُفلح أيضاً تغيير الموعد الفرنسي لإطلاق سراح جورج في منع الحشود الشعبية من استقباله على بوابة المطار. كما لم تنجح المُحاولات الأمنية في كبح جماح المتظاهرين الذين أتوا بالمئات من كلّ المناطق من دون أن يتأثروا بمحاولات منعهم عن رفع الأعلام الحزبيّة، كما استخدامهم لمكبّرات الصوت. في البداية تأقلم هؤلاء مع الموانع مكتفين بأصوات علت من الحناجر: «حرية جورج عبد الله»، قبل أن يرفعوا الأعلام ثم يثبتوا المكبرات الصوتيّة، بانتظار هبوط الطائرة الفرنسيّة.
هؤلاء أنفسهم اعتادوا أصلاً الإجراءات الأمنية المشدّدة على مدى ربع قرن وقفوا فيها أمام بوابة السفارة الفرنسيّة في بيروت. لم تتغيّر الشعارات ولا الوجوه، وإنّما كبر هؤلاء فقط والتحقت بهم أجيال جديدة. «الرفيق عباس» واحدٌ من هؤلاء. لا يُمكن أن يتذكّر المتظاهرون أمام السفارة الفرنسية تحرّك واحد لا يكون فيه «عباس لبّايا» (ينادونه رفاقه بهذه العبارة تيمّناً بمسقط رأسه) فيه. يرمي عباس الكوفية الفلسطينيّة على كتفيه ويضع يديه حول فمه هاتفاً لجورج، قبل أن يردّد الحاضرون وراءه. لا يذكر الشاب الذي صار كهلاً متى كانت المرّة الأولى التي شارك فيها باعتصامات من أجل الإفراج عن جورج، ولكنه يلتزم بمقولة تشي غيفارا «أينما يكون الظلم فذاك هو وطني».
وعباس كجميع الحاضرين الذين لم يصدّقوا أنّ جورج سيخرج من خلف البوابة الحديديّة، كما لم يصدقوا أنّهم سيلحقون به بالسيارات إلى مسقط رأسه في القبيّات في عكّار. الجميع هنا ينتظر اللحظة، يتسلّق البعض البوابة والحواجز الحديديّة الموضوعة على جوانب الطريق علّهم يرمقون ما يجري في الجهة المقابلة وتحديداً في صالة الشرف، حيث يُقال إنّ استقبالاً سيُقام له.
ولكن مشهد الاستقبال لم يكن يشبه ما يجري في الخارج، حيث رفع المتظاهرون قبضاتهم وحمل بعضهم أعلام الحزب الشيوعي والحزب القومي السوري الاجتماعي و«الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، وصرخوا «مقاومة حرية»، عندما زُفّ الخبر إليهم: «طائرة جورج حطّت على الأراضي اللبنانيّة». أما الأجهزة الأمنية، فحاولت منع تقدم المتظاهرين خلال توجههم إلى البوابة أو إلى المخرج لمنع إقفال الطريق على الخارجين من المطار.
«كونوا إلى جانب المقاومة»
تزداد حماسة الموجودين عندما سمع هؤلاء أنّ جورج يحتضن أفراد عائلته بعد 41 عاماً من الغياب في ظل وجود بعض النواب الذين وقعوا سابقاً على عريضة إطلاق سراحه، وأبرزهم: أسامة سعد وإبراهيم الموسوي وأمين شري وقبلان قبلان وإلياس جرادي وجيمي جبور... إضافةً إلى الأمين العام للحزب الشيوعي حنّا غريب وعضو المجلس السياسي في حزب الله محمود قماطي. وتزداد دقات القلوب حينما فتحت البوابة الحديديّة التي سيخرج منها المناضل الأممي.
ساعة كاملة قبل أن تفتح البوابة بالكامل معلنةً انتهاء حقبة ظلم امتدّت 41 عاماً، ليخرج منها جورج، كما اعتادته عيون محبيه: رجل عجوز بـ«تي شيرت» حمراء وكوفيّة التفت حول القربة، وقبضة يد «أزهرت» بعد سنوات من النضال شارةَ نصر.
هكذا أطلّ جورج على المتظاهرين. لم يكن الرّجل يريد أكثر من شبان ما زالوا على درب المقاومة ينتظرون رؤيته، ويهتفون باسمه الذي التصق بعبارة المقاومة والحريّة. بدا جورج متأثراً بكلّ هذه الحشود التي كانت تحاول الاقتراب منه، وهو يمسح دموعه على عجل، بينما يبكي الموجودون تأثراً: هي اللحظة التي انتظروها منذ زمن.
التعب البادي على ملامحه والزحمة التي تحلّقت حوله والإجراءات الأمنية المشدّدة لم تُغيّر من رجل هادئ وذهنه حاضر. كلمات مقتضبة نطقها بعد خروجه أمام الحشود، ومع ذلك كانت كافية لاختصار المشهد: «كونوا إلى جانب المقاومة وشهدائها، إلى جانب فلسطين، إلى جانب غزّة»، داعياً الجماهير المصرية إلى التحرك لنصرة غزة.
وكان عبد الله قد صرّح قبل خروجه للقاء المحتشدين: «من المعيب للتاريخ أن يتفرّج العرب على معاناة أهل فلسطين وغزة»، مضيفاً: «ننحني أمام شهداء المقاومة إلى الأبد فهم القاعدة الأساسية لأي فكرة تحرّر في العالم. وإسرائيل تعيش آخر فصول نفوذها ويجب على المقاومة وفلسطين أن يستمرا في دحر إسرائيل».
المصدر: الأخبار اللبنانية