اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ٣ كانون الأول ٢٠٢٥
كانت رفح الخاتمة المفتوحة للتاريخ حين عجز العالم عن كتابة جملة حق واحدة، حيث يبلغ الحصار ذروته، ويبلغ الجوع حدَّه السياسي، ويبلغ الخذلان مستوى الخيانة الصامتة، ارتفعت رفح بوصفها آخر قلاع معنى الصمود حين انهارت كل المعاني من حولها.
هذه ليست معركة بقاء، فالبقاء غريزة، وما حدث في رفح كان قراراً واعياً بالصعود فوق غريزة النجاة، خرج رجالها ليحرسوا آخر تعريف شريف للحياة ذاتها، في رفح انكشفت الأكاذيب الكبرى من كذبة المجتمع الدولي، كذبة الحياد، كذبة إنقاذ المدنيين، وسقط مقابلها تعريف واحد لا يقبل المساومة أن الدم حين يُسفك دفاعاً عن الأرض يكون وثيقة سيادة.
هنا لم تحارب الأجساد وحدها، إنّما قاتلت المفاهيم، مفهوم الهزيمة، مفهوم الاستسلام، مفهوم النجاة الفردية، ومفهوم القيادة المعزولة عن شعبها، وفي رفح سقطت هذه المفاهيم دفعة واحدة، وصعد بدلاً منها نموذج السيادة الجريحة، حيث سيادة تُنتزع تحت الحصار، وتتغذّى من الجوع، وتتعالى فوق الخذلان
من رفح لم يخرج صراخ استغاثة، إنّما خرج بيان اتهام للتاريخ، أن هذا العالم رأى، وفهم، وقرّر ألا يتدخّل، فصار شريكاً كامل الصلاحيات في الجريمة.
رفح العاصمة المعنوية للصمود الفلسطيني
في الأزمنة العادية تُعرَّف المدن بوظيفتها العمرانية، أما في لحظات الانكشاف الوجودي فتُعرَّف بوظيفتها التاريخية، ورفح في هذه اللحظة خرجت من تعريف المدينة المنكوبة إلى مقام الفاعل السياسي–الأخلاقي الذي يعيد صياغة سؤال: من نحن؟ وكيف نقاتل؟ وبأي وعي نموت ونحيا؟
رجال رفح قاتلوا بوصفهم حَمَلة مشروع كرامة، فالجوع الذي أُريد له أن يكون أداة إخضاع تحوّل إلى رافعة صلابة، والخذلان الذي خُطّط له أن يكون كسراً للإرادة انقلب إلى وقود مواجهة، هنا كان الجوع دليلاً على نقاء المعركة من شوائب الدعم المشروط، ولم يكن انعدام الزاد مؤشر عجز، كان علامة على أن الميدان صار اختباراً خالصاً للإيمان بالمعنى وحده.
هنا وحين نفد الزاد، لم ينكسروا، إنّما بدأت المعركة الحقيقية حين لم يبقَ سوى الجسد في مواجهة آلة الإبادة، في تلك اللحظة أصبحت القدرة على الثبات بلا سند هي أعلى درجات الردع.
رفح لم تصمد لأن لديها ما يكفيها من القوة، رفح صمدت لأنّ الصمود ذاته أصبح صيغة الهجوم الأخلاقي على عالمٍ اختار أن يكون شاهد زور، وهنا تحديداً تحوّلت رفح من مدينة تُستدرّ لها الدموع، إلى مدينة تُستدعى منها المعايير، معايير الشرف، ومعايير القيادة، ومعايير معنى أن تكون حيّاً تحت النار لا خارجه، لذلك صارت رفح معياراً جديداً للهزيمة والانتصار معاً، الهزيمة لمن خذلها، والانتصار لمن بقي فيها يقاتل بلا زاد، بلا غطاء، بلا وهم، رفح اليوم تُمثل نقطة إعادة ضبط للبوصلة الوطنية، فمن لم يفهم رفح، لن يفهم بعد اليوم معنى فلسطين.
القتال بلا زاد
في رفح كان القتال صداماً بين فلسفتين للوجود، فلسفة تراهن على فائض النار، وفلسفة تراهن على فائض الإرادة، وهنا كان المقاتل مُسَوَّراً باليقين، ولم يكن جسده مدرَّعاً إلا بقرار واحد وهو أن لا يعود إلا حرّاً أو شهيداً.
القتال بلا زاد يعني أن السيادة أصبحت محصورة في امتلاك المعنى، وحين يُجَرَّد الميدان من كل شروط التوازن العسكري، ويبقى الإنسان وحيداً في مواجهة آلة الإبادة، فإن استمرار القتال يعُد انقلاباً على قوانين القوة ذاتها، هنا تنهار المعادلة الكلاسيكية التي تنص على أنّ 'القوة تُقاس بما تملك'، ويُستبدل بها تعريف أكثر رعباً للخصم 'القوة تُقاس بما لا يستطيع كسره فيك'.
استمرار المعركة رغم انعدام الدعم العربي والدولي كان قراراً سيادياً بفكّ الارتباط عن وهم الرعاية، فرفح خاضت معركتها خارج شبكات الدعم المشروط، وخارج هندسة الضغط الدولي، وخارج تجارة البيانات القلقة، لقد قاتلت وهي تعلم أن الظهر مكشوف بالكامل، وأن الخذلان صار واقعاً مُثبَتاً، ومع ذلك لم تتراجع، وهنا تحديداً ارتقت المعركة من مستوى الاشتباك العسكري إلى مستوى المواجهة مع البنية السياسية للعالم نفسه.
وهنا يظهر أخطر مصطلح في هذه المرحلة، وهي 'الإرادة المُسَلَّحة بالوعي'، إرادة لا تُقاتل لأن لديها ما يكفي من العتاد، رفح تُقاتل لأنها امتلكت ما يكفي من الشرعية المعنوية للاستمرار، إرادة تعرف أن المعركة على معنى الأرض، وعلى من يحق له أن يُعرّف نفسه سيّداً فيها.
الدلالة السياسية للقتال بلا زاد في رفح أنه إعلان إفلاس لكل من راهن على كسر الإرادة عبر الحصار، وهو في الوقت ذاته مذكرة اتهام تاريخية لعالم قرر أن يختبر إلى أي حدّ يمكن للإنسان أن يُترك وحيداً ثم يُطالَب بأن يتصرّف بعقلانية.
رفح هنا تُعيد كتابة علم السياسة من زاوية الجوع، وتُعيد تعريف السيادة بوصفها قدرة على الاستمرار بلا ضمانات، ولذلك كان هذا القتال تعبيراً عن أقصى درجات الرجاء الواعي، الرجاء الذي يواجه العالم ويُحرجه ويجرّه إلى زاوية الاتهام.
من سردية الضحية إلى سردية العزّ
في قلب رفح، حيث يختلط الركام بالغضب والغبار بالدم، كانت المعركة اشتباك على معنى الوجود نفسه، فالاحتلال أراد غزة صورة تثير الشفقة، لكنه صادف مدينة رفضت أن تكون عرضاً للعطف الدولي، ورفضت أن يتحول دم أبنائها إلى مادة للتسوية العاطفية، هنا انقلبت سردية الضحية إلى سردية العزّ، لتصبح غزة مختبراً سياسياً للأمم التي اعتادت قراءة الفلسطيني على أنه مجرد ضحية، لا صانع قرار، ولا حامل مشروع، فكل مشهد من الصمود، وكل جسد يقاتل بلا زاد، وكل دم يسطر الرواية، هو تحصين سياسي للرواية الفلسطينية، إذ أصبح التوثيق سلاحاً يواجه ماكينة تزوير التاريخ والحقائق، ويثبت أن المقاومة فعل حي، قائم على خيار واعٍ وإرادة لا تُقهر.
المعركة هنا كما هي على الأرض هي على الوعي، على إرادة الناس، وعلى قدرة المجتمع الدولي على التعامل مع الحقيقة كما هي، شجاعة حيّة تصنع معنى جديداً للمقاومة، وتقلب آلة التبرير إلى فضيحة أخلاقية وسياسية، فغزة أرادت أن تقول للعالم إن الألم هو اتهام مفتوح لكل من صمت، وكل من حاول ترويض البطولة إلى حالة استجداء أو مأساة عاطفية، ففي هذه المدينة أضحت الكرامة تساوي القدرة على إعادة تعريف التاريخ والمعنى والسيادة، حتى من تحت الأنقاض.
بين التفاوض والميدان .. وحدة الدم والقرار
في اللحظة التي جلس فيها غازي حمد على طاولة التفاوض، كانت يده ممدودة للدفاع عن شعب كامل، بينما كانت يد نجله في رفح تخوض المعركة في قلب الأرض نفسها، هذا المشهد لم يُمثل رمز سياسي صارخ يُسقط الفصل المصطنع الذي حاول الاحتلال فرضه بين القيادة والميدان، بين السياسة والدم، بين الاستراتيجية والمواجهة الحقيقية، هنا تجلت وحدة القرار المقاوم في أبهى صورها، حيث لم يعد هناك فرق بين من يفاوض بالبيانات والمطالب، ومن يقاتل بالرصاص والدم، الدم نفسه الذي يسري في جسد المقاتل، يصبح امتداداً للقرار السياسي، والقرار السياسي يصبح امتداداً للدم، لتتحقق الامتزاجية الكاملة بين الإرادة الوطنية والمعركة الفعلية.
رفح بهذا المعنى تُمثل منصة تاريخية تُعيد تعريف القيادة بوصفها مشاركة في كل تفاصيل الميدان، لا مجرد صياغة القرارات من وراء المكاتب المغلقة، إن وحدة الدم والقرار هنا تمثل حالة نادرة من المصداقية السياسية، حيث يصبح القول والفعل مرآة لبعضهما، وغياب أي تمييز بين المنصات والميدان رسالة واضحة لكل من يظن أن القيادة بمعزل عن شعبها.
أبناء القادة في الصفوف الأولى
استشهاد نجل غازي حمد قبل أيام وقبله ارتقى نجل باسم نعيم -عضو الوفد المفاوض- وقبلها ارتقى نجل خليل الحية - رئيس الوفد المفاوض-، هذا لم يكن حدثاً يضاف إلى سجل الشهداء، إنّما وثيقة سياسية دامغة تُثبت أن المقاومة ليست مجرد شعار، وأن القيادة ليست في مأمن من كلفة الخيار، حين يقف أبناء القادة في الصفوف الأمامية، يتحطم تصور الامتياز التقليدي الذي حاولت بعض الروايات الخارجية فرضه، ويصعد مقياس المصداقية الوطنية إلى أعلى درجاته، وهنا تتحول الشهادة من فعل شخصي إلى التزام عملي يُدفع ثمنه على الأرض نفسها التي يُدافع عنها الجميع.
عائلات القادة مثل كل أبناء الشعب، تشارك في التجربة نفسها، تتقاسم الألم نفسه، وتحمل عبء القرار نفسه، لتصبح المقاومة مصداقية لا شعاراً، وواجباً مشتركاً لا امتيازاً مفروضاً، الشهادة في هذا السياق ليست نهاية، هي بداية: بداية لإثبات أن الالتزام بالمشروع الوطني يتجسد في الأفعال، وأن الدم الذي يسفك في الميدان هو خطّ سياسي مباشر يصل إلى قلب أي حوار عن شرعية المقاومة وحقوق الشعب الفلسطيني، بهذا يصبح استشهاد الأبناء أرفع رموز الوفاء بالقرار الوطني، وأكثر إدانة عملية لكل من حاول فصل القيادة عن شعبها أو تقليص المعركة إلى مجرد مفاوضات بلا دماء.
الدم كوثيقة والسيادة كخيار
رفح لم تسقط، ولم تنتظر رحمة العالم، ولم تُحوّل صمودها إلى مجرد مشهد استعطاف، هنا حيث تنهار معادلات القوة، ويغدو الجوع حاكماً على كل الإمكانيات، خرجت المدينة لتكتب صفحة العزّ الكبرى، الدم الذي سُفك كان وثيقة سياسية وحضارية تُثبت أن السيادة تُنتزع بالإرادة، وأن المقاومة هي التزام عملي على الأرض، في الميدان، وفي طاولة التفاوض، في قلب كل عائلة صامدة.
في لحظة تفاوض يقودها القائد، كان نجله يقاتل، لتتضح وحدة القرار ومصداقية الدم، هنا تنهار كل الصور المصطنعة التي حاولت عزل القيادة عن الشعب، والسياسة عن المعركة، لتصبح المقاومة جسداً وروحاً واحدة، لا فصل بين الدم والإرادة، بين الاختيار والمعركة، استشهاد الأبناء كان إعلان سيادة سياسي، ودرس صادق لكل من أراد قراءة المقاومة كحكاية تروى بلا دماء، أو قصة تُستدعى فيها الشفقة بدل البطولة.
رفح بهذا المعنى تُمثل مختبر للمعنى الوطني، ومنصة لإعادة تعريف القوة، وأرضية لترسيخ السردية التي ترفض أن تُسلب من شعبها، فمن تحت الركام، ومن قلب الجوع والخذلان، خرجت الرواية الفلسطينية الحقيقية: رواية الإرادة التي تتجاوز كل محدوديات، والدم الذي يُكتب به التاريخ، والقيادة التي تصنع مصير شعبها لا تتفرج عليه من بعيد.
الدرس الأخير الذي تتركه رفح واضح، أنّ الدم هو أعلى درجات التأكيد على أن السيادة خيار، وأن العزّ موقف، وأن البطولة فعل دائم ومطلوب من الجميع، من القائد إلى أصغر مقاتل، ومن الأرض إلى الطاولة السياسية.
في رفح، أصبح الدم حارساً للرواية، وصرخة المدينة أقوى من كل البيانات الدولية، والرسالة واضحة: من أراد أن يفهم فلسطين، فليفهمها من رفح أولاً، حيث الإرادة تعانق الموت لتُعطي الحياة معنى حقيقياً للحرية.

























































