اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ٢٢ تشرين الثاني ٢٠٢٥
اعلان وزارة حرب الاحتلال عن وصول الطائرة رقم الف ضمن ما يسمى الجسر الجوي الامريكي ليس مجرد رقم احتفالي في سجل الدعم، بل كشف بنيوي عن طبيعة حرب الابادة على قطاع غزة، فالمشهد لم يعد يعكس جيشا يخوض معركة بقدراته، بل بنية قتالية معلقة على تدفق مستمر من السلاح والذخيرة والغطاء السياسي، وهذه مفارقة تضرب في عمق العقيدة الامنية الاسرائيلية التي طالما ادعت الاكتفاء والقدرة والتفوق العسكري.
عندما يتحدث الاحتلال عن الف طائرة ومئة وخمسين شحنة بحرية ومئة وعشرين الف طن من العتاد، فهي تكشف ان القرار العملياتي لم يعد منبثقا من داخل المؤسسة الامنية الاسرائيلية فقط، بل من منظومة اوسع تشارك في تشكيل ايقاع الحرب وحجمها وحدودها، فهذا التدفق لم يعد يحقق الردع كما كان في العقود الماضية، بل ينتج وظيفة الادامة، اي تزويد الة الحرب بكل ما تحتاجه كي تستمر مهما كانت كلفتها.
ورغم ان الخطاب الرسمي يحصر المساعدات في خانة الدعم الامريكي، الا ان القراءة المتأنية تكشف شيئا اوسع واشد تعقيدا، فمن المؤكد ان جزءا من هذه الشحنات ليس امريكيا بالكامل، وان طرق الامداد نفسها تشير الى ادوار غير معلنة لحلفاء اخرين، اوروبيين وربما غير اوروبيين، وبعضهم من دول تصف الاحتلال في العلن بانه 'عدوها التقليدي'، والاخطر ان الجسر الجوي والبحري كما البري ايضا، ما كانت لتعمل بهذا الحجم والسلاسة لولا ان اجواء وممرات مائية عربية فتحت، واراض عربية تحولت الى محطات عبور للاسلحة والذخيرة التي كانت تهدم غزة على رؤوس اهلها.
هنا تظهر فجوة كبيرة؛ جغرافيا عربية حملت السلاح الى من يقتل شعبا عربيا، يدعي العرب منذ ثمانية عقود انهم يسخرون طاقاتهم وامكاناتهم وتحالفاتهم لاجل حريته واستقلاله، وفي الوقت الذي تتحدث فيه حكوماتهم عن التزامها التاريخي تجاه فلسطين، تجد جغرافيتها تتحول، بصمت او بقبول، الى ممر يضمن استمرار الحرب، وهذا المشهد لا يقل خطورة عن الدعم العسكري نفسه، لانه يعيد تعريف معنى وشكل الاصطفاف الاقليمي ومالاته في لحظة اختبار تاريخية.
والامر لا يقف عند حدود الشحنات، فهناك حزم دعم اقتصادي ومالي وسياسي لا تدخل في السجلات العسكرية، لكنها تشكل النصف الخفي من معادلة استدامة الحرب، من مساعدات مالية تغذي اقتصاد الاحتلال، الى علاقات تجارية مستمرة، وغطاء دبلوماسي يعطل اي ادانة جدية في الهيئات الدولية، هذا النوع من الدعم لا يقل تاثيره عن شحنات القذائف والصواريخ.
وفي المقابل، يتحول جيش الاحتلال الى جيش هجين؛ بين محلي واخر مدمج فعليا داخل المنظومة العسكرية الامريكية من حيث السلاح والذخيرة والدعم الاستخباري، ومع توسع استخدام مخزونات الجيش الامريكي في المنطقة، لم يعد يملك التفوق بوصفه انتاجا ذاتيا، بل بوصفه امتيازا تشغيله وتقدمه واشنطن، وهذا يفتح الباب امام سؤال استراتيجي لا يطرح، هل ما يجري حرب اسرائيلية تدعمها الولايات المتحدة، ام حرب اميركية ينفذها جيش الاحتلال؟ فهذه التبعية المتزايدة تقيد بدلا من ان توسع، فالطرف الذي يتحكم بالذخيرة يتحكم بحدود التصعيد، ومنسوب الدم، وبما يمكن ان يفعله الاحتلال تجاه غزة وايران وسوريا ولبنان او حتى البحر الاحمر، وكلما ازداد اعتماده على الجسر الجوي، تراجعت قدرته على اتخاذ قرار مستقل.
واذا كان الجسر الجوي هو الوجه العلني لهذه الحرب، فان الوجه الاخر يكمن في ارباح واشنطن من اقتصاد الدم، فالحرب بالنسبة لصناعة السلاح الامريكية ليست مجرد التزام سياسي تجاه حليف فقط، بل هي ايضا فرصة لرفع انتاج الشركات العملاقة، من صواريخ ذكية وقنابل ارتجاجية الى منظومات صاروخية او مراقبة ومسيرات، ارقام البورصات لا تقل فصاحة عن البيانات، فاسهم شركات السلاح ارتفعت منذ بدء الحرب بشكل غير مسبوق، فيما وقعت عقود توريد جديدة بعشرات المليارات مع جيوش في اوروبا وشرق اسيا والخليج العربي، وكلها تعتمد على 'فعالية' الاسلحة التي جرى استخدامها في غزة، وبهذا المعنى، تتحول غزة الى معرض قتالي مفتوح يختبر فيه السلاح قبل تسويقه، وتتحول واشنطن من داعم سياسي الى طرف يحصد المكاسب المباشرة من اطالة امد الحرب.
هكذا تتحول المذبحة الى رافعة اقتصادية وجيوسياسية في ان واحد، ويصبح وقف الحرب ليس قرارا اخلاقيا او انسانيا، بل مسالة تمس مصالح صناعية ومالية واستراتيجية متشابكة، وفي هذا السياق، لا يمكن فهم الجسر الجوي فقط بوصفه دعما لوجستيا، بل بوصفه استثمارا طويل الامد في اعادة تشكيل اقليم كامل على مقاس المصالح الامريكية، حربا بعد حرب، وجولة بعد جولة، بينما يدفع الفلسطيني وحده، بجسده وحياته ومدنه وقراه، الكلفة الكاملة لهذا الاقتصاد الدموي.

























































