اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ١٣ أيلول ٢٠٢٥
لا شيء يوقف هذا الاحتلال عند حد او قانون؛ فلا سيادة، ولا معاهدة، ولا حتى ما تبقى من عرف دولي، في غزة تتجدد اوامر الاخلاء لمدينة بأكملها، فتدفع العائلات الى نزوح متكرر، تحت النار والجوع، وفي الضفة الغربية يتكثف عنف المستوطنين، تحت حماية جيش الاحتلال وبرعايته؛ اعتداءات منظمة، قتل وتشريد، مداهمات تشل القرى، وتدمر ارزاق الناس، مدن الضفة ايضا باتت مستباحة بالكامل، مشاهد طولكرم اول امس تعيد الى الذاكرة مشاهد غزة الاولى، ومشاهد النكبة من قبل، هذا هو الوجه العاري للاحتلال؛ سحق للأرض والانسان معا، لكن الاخطر ان الاحتلال لم يعد يحاصر الفلسطينيين وحدهم؛ بل مد سيف غدره خارج فلسطين، ليضرب في قلب العواصم العربية، وكأنه يكتب على الجميع قانون الاذعان له.
قصف الدوحة لم يكن حادثا معزولا؛ بل كان جزءا من كرة ثلج، واعلانا وقحا بأن يد الاحتلال مطلقة، وان الدم العربي بلا حرمة، وبمباركة امريكية، وما ان تكشفت تداعياته، وفشله ايضا، حتى بدأ الاحتلال بسحب روايته، تلك التي اعدها مسبقا للاحتفال بـ'النصر'، وحين عجز عن تبرير جريمته، تبعه ترامب ببيان مرتبك، لم يغط حتى عورة التواطؤ.
قبل الدوحة كانت دمشق وبيروت، وكانت بغداد وصنعاء وتونس، وعمّان وأبو ظبي، وحتى طهران، وفي الغرب ايضا، من باريس إلى لندن وأثينا وفيينا، ومن روما الى اوسلو وبروكسل وصوفيا، ومن قبرص الى مالطا، سقط القادة الفلسطينيون تباعا بالرصاص او بتفجيرات غادرة، لم يكن ذلك خللا عابرا ولا هفوة في الحساب؛ بل عقيدة استعمارية متجذرة، ترى في السيادة العربية وهما، وفي الحدود التي رسمتها بقلامها مجرد خطوط قابلة للشطب، خرائط سايكس وبيكو التي قسمت بها اوطاننا عادت تعامل عندهم كمساحات رمل، تمحى بطلعة جوية واحدة، انها ليست حربا على مدن او عواصم، بل حرب على التاريخ كله، على وجود امة وحقها في أن تكون.
وبينما كانت طائرات الاحتلال تجوس سماء العرب، لم تكن تعبر حدودا بقدر ما كانت تمحوها، الجغرافيا تبخرت تحت ازيز المحركات، والسيادة تهاوت كرماد يتناثر مع اول صاروخ، السماء نفسها استبيحت، وتحولت الى مسرح هيمنة، حيث كل غارة تمزق ستار القانون، وكل انفجار يدفن وهم الشرعية، لم يكن القصف على مدن بعينها، او اشخاص بعينهم، بقدر ما كان يستهدف فكرة ان للعرب وطنا وحدودا، او سماء يمكن ان تصان.
هذه ليست مجرد نزعة عدوانية، بل سياسة ممنهجة تمتد جذورها الى مشروع استيطاني توسعي، يرى في الارض غنيمة، وفي السكان عبئا يجب التخلص منه، منطق عابر للحدود، لا يستهدف ضيوف قطر فحسب، بل يخلخل منظومة الامن الاقليمي بكاملها، ويفتح الباب لتحويل العواصم العربية الى ميادين للغارات والاغتيالات، انه اخطر من مجرد اعتداء؛ انه اعلان صريح بان المنطقة كلها باتت رهينته.
منطق يفضح كل شعارات 'القانون الدولي' و'الشرعية الدولية'، ويعري الحالمين بوهمها، تلك الاوهام التي يتلاعب بها الاقوياء، ويسحق تحتها الضعفاء، فكيف يحكى عن امن اقليمي بينما عواصم العرب ككتاب مفتوح امام الاحتلال؟ وكيف ترفع رايات السيادة بينما سماؤهم تحولت الى ممر آمن لغاراته؟ اي نظام عالمي هذا الذي يعجز عن حماية ابسط معاني السيادة الوطنية؟
لكن ما غاب عن كثيرين، واولهم العرب، ان غزة لم تكن مجرد جرح نازف، بل سد منيع كبح اندفاعته، غزة بصمودها ودمها، بحصارها ودمارها، كانت الجدار الذي ارتطم به الاحتلال، ووقف طويلا - ولا يزال - عند بواباتها، تمتص غضبه العسكري، تبتلع جيشه وترسانته، وتكشف عجزه وفشله، لكن حين صمتوا على ذبحها، ورضوا بحصارها وتجويعها، وسكتوا على دفن اطفالها تحت الركام، بل وامدوه بالمال ووسائل القتل، لم يذبحوا غزة وحدها؛ بل ذبحوا انفسهم اولا، لقد تركوا بوابة الصد تتصدع، فانفلت الغزاة بلا خوف ولا حساب، يطرقون ابواب عواصمهم واحدة تلو الأخرى، ومن لم ير منهم في دم غزة معنى لكرامته، فليره اليوم في سماء العواصم المهانة، وقد تحولت الى ارض محروقة امام عدوانه وغدره.
إما إن تتداعى العواصم العربية لحماية بقية من سيادتها، بنصرها لغزة اولا، ثم بفرض ثمن سياسي واقتصادي وأمني لهذا السلوك الاجرامي، او انه سيتمادى اكثر في لعبة القوة التي 'يتقنها' الاحتلال، حيث لا يوقفه حد، ولا تردعه معاهدة او حتى تعاون امني، فلن يتوقف الا اذا واجه امة حقيقية، تجعل من كل غارة، وكل اغتيال عبئا لا يمكن تحمله، وحتى يحدث ذلك، سيبقى الحقد الاسود يتمدد، من شتات الضفة الى احياء غزة المدمرة، ومن سماء العرب الى شوارعهم، ولسان حاله، انا القانون، وما عداه سراب يتبدد.