اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ١٣ أيلول ٢٠٢٥
لم يترك الشعراء شيئاً إلا قالوا رأيهم فيه، ومما قالوا فيه، الحنين إلى الديار، فالشعراء بشرٌ من لحمٍ ودمٍ وأحاسيس مثل باقي الناس، وربما أكثرهم إحساساً وقدرة على التعبير عن مكنونات النفس.
ومن أجمل ما قيل في الشعر عن الحنين للشاعر الفلسطيني محمود درويش 'أحنُ إلى خبز أمي وقهوة أمي'، تصوروا إلى ماذا يحن؟ إلى خبز وقهوة أُمه، إلى أبسط الأشياء إلى أصغر الأشياء في عالم اليوم المعقد، لكنه يحن إليها، هو لا يُعظِّم الخبز أو القهوة لذاتهما، بقدر ما يعظم من تُعدهما.
الحنين للديار ليس مرتبطاً بفئة بشرية، فكل انسان به حنين، يحنُ ،لأحبة تركوا المكان، أو تركوا الزمان والمكان، لأشياءٍ مضت، لألعابٍ مضت، لجلساتٍ مضت، يَحنُ لبيته وأسرته وسريره، حارته، أصحابه، مدرسته وزملاءه، ملعبه وصراخ لاعبيه، مدينته وضجيجها وساكنيها، جامعته وطلابها ومعلميها وساحاتها وقاعاتها، يحن لزقزقة العصافير مع بزوغ الفجر، وصراخ الأطفال في وقت الظهيرة، يحنُ لسهرةٍ أمام منزله تحت ضوء القمر، يَحنُ لمنظر هطول المطر، يحنُ لطقسٍ كان يراه في ذاك الوقت صغيراً وبسيطاً، يحن لأبسط التفاصيل في حياةٍ مضت.
إن الحنينَ ليس حكراً على البشر، الحيوانات والطيور بغض النظر عن عدم تمتعها بالعقل، تَحنُ لأماكنها وأصحابها، فالحنينُ يتسلل عبر القلوب متجاوزاً جبروت العقل، فكم من عاقلٍ انهار لحظة طغيان حنينه إلى أُمه وأبيه وأهله وأولاده وكل شيء جميل بماضيه.
في واقعنا الفلسطيني الحالي منذ عدوان 2023 ونزوح الناس من بيوتهم، وطال الغياب عن الديار، تسللت للنفس أسراب الحنين إلى المنزل والحارة والجيران، خاصة أن العدو فرّق الأهل والجيران، وقصف بيوتنا ومؤسساتنا، فما أن يلتقي جيران ببعضهما في أحد مخيمات النزوح، حتى تنشط الذاكرة عائدة إلى الخلف تنبش عما كان من ذكريات.
إن جمال المكان أو الزمان الذي ينتقل الانسان للعيش فيه لا يعني نسيان ما كان في مكانه أو زمانه القديم، وهذا أكده الشاعر العباسي أبو تمام: (كَم مَنزِلٍ في الأَرضِ يَألَفُهُ الفَتى وَحَنينُهُ أَبَداً لِأَوَّلِ مَنزِلِ).
ومن أجرأ من قيل في شعر الحنين للوطن ما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي' وطني لو شغلتُ بالخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي'، ومفادها أن حب الوطن والديار أمر وصل لمرحلة مقدسة.
وقبل وداعكم، أتعلمون لماذا أحن؟
أحنُ لما يحن له محمود درويش، لأمي وقهوتها وخبزها، وصوتها وجلستها، فقد فارقت الحياة في فبراير2024 أثناء العدوان.
أحنُ إلى ليلةٍ دون قصفٍ أو نسفٍ أو تفجير، لفجرٍ دون أزيز الطائرات والزنانات، لنهارٍ دون ضجيج الدبابات والمدافع.
أحنُ لرؤية أطفال الرياض والمدارس وطلاب الجامعات، وجلسة أسرية دون أن يفزع الأولاد من الخوف، والسمر مع الأحبة والأصدقاء، للصلاة في مساجد بلدتي، ولأشياء كثيرة.
أختمُ بدمع العين: إن الحنين إلى الديار والأهل وما مضى، لا تحده حروف وكلمات، فكما قال الشاعر 'حنا الأسعد': ولو أن أشواقي إليهنّ سُطّرت
لما وسعتها الكائنات سُطورا) هذا دليل على حيوية الحنين في وجدان الانسان، فطالما أنه على قيد الحياة، سيبقى على قيد الحنين.