اخبار فلسطين
موقع كل يوم -وكالة شمس نيوز
نشر بتاريخ: ٨ تشرين الثاني ٢٠٢٥
أصبحت «الفوضى المُدارة» سمة أساسية في صراعات العصر الحديث، حيث تتشابك الحروب الاقتصادية والنفسية والاجتماعية بعضها مع بعض. وتُظهر تجربة غزّة، في هذا الإطار، جوهر ما بات يُعرف بـ«الحرب الظلّية»، أي تلك التي تُدار من وراء الستار بهدف تفكيك المجتمعات المعادية من الداخل، وذلك عبر استخدام سلاح الفوضى حين تعجز القوة التقليدية عن تحقيق أهدافها. ومنذ اللحظة الأولى للعدوان الإسرائيلي، بدا أنّ ثمّة حرباً على النسيج الاجتماعي للقطاع، بهدف تحويل الاضطراب الداخلي إلى أحد روافد هدف إلحاق الهزيمة بالمقاومة.
هكذا، اشتغل العدو على تذويب الثقة بين الناس، وتفريغ المجتمع من قدرته على التنظيم الذاتي، وذلك عبر تقويض سلطة المؤسّسات المحلّية، وتغذية الخصومات القبلية، وتجنيد العملاء والانتهازيين، مطبّقاً بهذا ما يُسمّى «هندسة الديناميات الاجتماعية»، أي العملية التي تُضخّم فيها القوى الخارجية التناقضات الداخلية حتى ينهار النسيج الاجتماعي من تلقاء نفسه. وبينما كانت الصواريخ تنهال على القطاع، كانت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية تتحرّك في الظلّ، من أجل تكوين شبكة عصابات محلّية مهمّتها مراقبة أفراد المقاومة والحدّ من عملياتهم، وترويض المجتمع الغزّي.
ومنذ الأيام الأولى للقصف، استغلّت إسرائيل تاريخ بعض العائلات والأفراد المتوتّر مع حركة «حماس»، لتؤجّج الصراعات الداخلية وتحوّلها إلى أدوات هدم. ومع تراجع سلطة الشرطة وانهيار أنظمة الإنفاذ في بعض المحافظات، من مثل مناطق في رفح، تحوّلت الفوضى من استثناء إلى مشهد يومي. وبالتوازي، استخدم العدو الندرة الاقتصادية، التي سبّبها حصاره المطبق على القطاع أداةً للحرب، تجلّت فاعليّتها في تحوّل التجّار إلى محتكرين، واستغلال الصرّافين والمرابين الفوضى النقدية لضرب الاستقرار المالي، وتسلّل الفساد إلى الهيئات الإغاثية الطارئة. وحتى في مخيمات النزوح، اندلعت خلافات بين عشائر من الشمال والشرق وبين عائلات الجنوب، تطوّرت في كثير من الأحيان إلى اشتباكات لفرض السيطرة.
وفي ظلّ هذا الانفلات، ظهرت منظمات تحمل أسماء «خيرية»، لتكون لاحقاً واجهات لجماعات تنسّق في الخفاء مع الاحتلال، الذي بدأ بدوره بتغذية تلك الجماعات عبر تجنيد ضعاف النفوس من التجار والمخاتير - خصوصاً أولئك المرتبطين بسلطة رام الله -، مطبّقاً ما يُعرف بالتشويه البنيوي للاقتصاد السياسي. آنذاك، لم يخفِ الكيان أهدافه؛ إذ أعلن وزير الأمن السابق، يؤاف غالانت، بوضوح، عن خطّته لخلق «فقاعات إنسانية» وتسليح بعض العشائر لضرب الجبهة الداخلية. وبحلول مطلع عام 2024، كانت الخطة قد اتّخذت شكلاً عملياً؛ إذ توسّعت الضربات من استهداف البنية الأمنيّة لتطاول كل ما يشكّل «نظام الحكم» في غزة، بما لا يستثني حتى المبادرات الخدمية الصغيرة ومخازن الإغاثة والمكاتب البلدية ونقاط الإنترنت.
وفي خضمّ ذلك، برز اسم العميل ياسر أبو شباب، في نيسان من العام نفسه، مع دخول قوات الاحتلال إلى رفح، كواجهة لـ«الفوضى المنظمة». الرجل الذي خرج من السجن مع أولى الغارات بعد أن كان محكوماً في قضايا مخدرات وسرقة، تحوّل إلى قائد لـ«عصابة» تفرض الإتاوات على قوافل المساعدات والتجار والمؤسسات الإغاثية الدولية، أو تنهبها تحت حماية الدبابات الإسرائيلية. وحتى الشاحنات التي حاولت تغيير مسارها لم تنجُ من النهب؛ إذ كانت مجموعات مسلّحة تهاجمها بغطاء من الطائرات الإسرائيلية. وبحسب مصادر في غزة، فإنه تكشّف لاحقاً أنّ بعض السائقين كانوا جزءاً من المخطّط، وأنّ مفاوضات «ناعمة» أجرتها شخصيات شرطية مع العصابات انتهت إلى «تواطؤ ورشى» بين الطرفين. وفي تلك المرحلة أيضاً، كانت مجموعات أخرى تتشكّل على طول خطوط المساعدات؛ إذ نصبت عائلات تقيم على طرق الإمداد، نقاط سيطرة مصغّرة لنهب كراتين الطعام، فيما انخرط شباب مدفوعون بالجوع، في السرقة، في وقت ركّزت فيه عصابات الاحتلال المحلّية على نهب السلع الأغلى ثمناً، تاركة الفتات للمُجوّعين.
لا يزال المجتمع الغزّي يظهر قدرته على بناء أشكالٍ جديدة من التنظيم الذاتي والتكافل الأهلي
مع ذلك، ورغم أنّ «الحروب غير النظامية» تضعّف قدرة المجتمع على إعادة ترميم نفسه، إلّا أنه مع دخول الهدنة حيز التنفيذ في 19 كانون الثاني 2025، أعادت «حماس» نشر عناصرها في الشوارع، وأطلقت حملة حسم شاملة ضد المتعاونين مع الاحتلال، والذين قُتل منهم العشرات وأُعدم بعضهم علناً. ومع نهاية الشهر، استعادت الحكومة السيطرة على مناطق كانت تحكمها العصابات، فتراجعت الفوضى سريعاً. لكن العدوان استُؤنف في آذار، ومعه عادت الفوضى بأقسى صورها في ظلّ حصار خانق فُرِض على معبر رفح.
وتصاعدت هذه الظاهرة لتبلغ ذروتها في 20 أيار الماضي، مع ما سُمّي «مؤسسة غزة الإنسانية»، التي أُعلن أنها ستتولّى توزيع المساعدات عبر ثلاث نقاط في رفح ورابعة في محور «نتساريم». إلا أنّ تلك النقاط سرعان ما تحوّلت إلى «مصائد موت» للغزيين، حيث استُهدف الفلسطينيون فيها بالرصاص وقذائف الدبابات، وسقط نحو 600 شهيد منهم وأُصيب أكثر من 4000.
وفي ظلّ هذه الظروف، شرعت بعض العائلات في تكديس السلاح المسروق من المقاومين أو من جثامين الشهداء. وبحسب مصادر في المقاومة، فإنّ عائلات في غزة، من مثل حنيدق (من عشيرة بربخ)، القطقاطوة، دغمش، حلس؛ وفي دير البلح، من مثل أبو مغصيب، وأبو سمرة «استخدمت السلاح في الاعتداء وفرض الإتاوات». كذلك، نجح الاحتلال في إنشاء عصابة حسام الأسطل شرق خانيونس، وبدأ في استنساخ تجارب مماثلة شمالاً ووسطاً. والأسطل، الضابط السابق في جهاز الأمن الوقائي والعميل المتّهم بالتخابر منذ التسعينيات، أعلن في أيلول 2025، تأسيس ميليشيا باسم «القوة الضاربة ضدّ الإرهاب» من نحو 150 عنصراً، هدفها «تحرير غزة من حكم حماس»، وتلقّى دعماً وتسليحاً من «قنوات متعدّدة»، بعضها عربي وغربي كما قال، «وبتنسيق جزئي مع إسرائيل»، وفقاً لما أوردته مواقع عبرية. وفي حزيران 2025، اعترف رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، علناً، بأنّ إسرائيل تدعم مجموعة مسلحة في غزة مناهضة لـ«حماس»، وقال: «ما نفعله هو تفعيل عشائر في غزة تقف ضدّ حماس... ما الخطأ في ذلك؟ إنه فقط ينقذ حياة جنود إسرائيليين».
وإلى جانب أبو شباب والأسطل، نشأت عصابات أخرى؛ ففي حي الصبرة في مدينة غزة، مثلاً، أعادت عائلة دغمش، تسليح مجموعتها بقيادة معتز دغمش، أحد أبناء الجيل الثاني من العائلة التي أسّست «جيش الإسلام» والتي مارست منذ عام 2014 أنشطة تهريب، وفقاً لمصادر «حماس». وبلغ التوتّر مع هؤلاء ذروته في تشرين الأول 2025، حين اندلعت اشتباكات عنيفة في حي الصبرة، استمرّت 36 ساعة بين «وحدة السهم» التابعة لحماس ومجموعة معتز دغمش، استخدمت فيها رشاشات وقذائف «RPG»، وأسفرت عن مقتل ما لا يقلّ عن 20 شخصاً، بينهم ستة من كتائب «القسام» و12 من العصابة. وبعد السيطرة على الحي، أعلنت «حماس» ضبط «خلية متمرّدة تعمل خارج القانون وتحت غطاء عشائري»، في حين وصف الإعلام الإسرائيلي المشهد بأنه «علامة على تفكّك سيطرة حماس»، متحدّثاً عن أنّ المجموعات المناهضة للحركة، تتلقّى دعماً من جهاز «الشاباك» و«الوحدة 8200»، المتخصّصة بالاستخبارات الإلكترونية.
أمّا في شرق غزة، فكان رامي حلس، وهو موظف في جهاز أمن الرئاسة الـ17 وعضو في «حركة فتح»، يقود عصابة أخرى بتنسيق مباشر مع ضابط المخابرات الإسرائيلي المعروف بـ«أبو رامي». وشملت مهامه خطف مقاومين وتسليمهم للاحتلال، وإطلاق النار على عناصر المقاومة في الشجاعية، وتخريب العبوات والأنفاق. وانسحب ذلك على بيت حانون وبيت لاهيا، حيث ظهر اسم أشرف المنسي، وهو عميل معروف بتشكيل شبكة من 20 عنصراً، مقابل المال والمخدرات والحماية من الاحتلال، برعاية أبو شباب.
وفي الشجاعية، نجحت المقاومة في تفكيك عصابة يقودها أحمد جندية، الذي قام، بعد أيام من تنفيذ ثلاثة إعدامات لعملاء في وسط غزة، بتسليم نفسه وعدد من عناصره لأمن المقاومة. أمّا في خانيونس، فخاضت الأجهزة الأمنية عملية نوعية ضدّ «عصابة المجايدة»، التي سرقت مساعدات بقيمة 15 مليون دولار، وتاجرت بها لشراء السلاح ونشر الفوضى، علماً أنه في أثناء العملية، تدخّل الطيران الحربي الإسرائيلي لقصف القوة الأمنية، ما أدّى إلى استشهاد 20 من عناصر المقاومة. وبينما كانت العائلات تُصدر بيانات براءة من أفرادها من العملاء، قالت مصادر في المقاومة، إنّ بعض المخاتير تورّطوا في «التغطية على أبناء عشائرهم»، في حين أنّ آخرين تجرّأوا على رفع الغطاء عن هؤلاء، وشكّلوا مجموعات عشائرية لتنظيم توزيع المساعدات رغم الاستهداف المتكرّر لمؤمّني عمليات الإغاثة.
ورغم سريان وقف إطلاق النار الشهر الماضي، وإعادة المقاومة انتشارها، وبدئها حملة واسعة لتفكيك العصابات، أُعدم خلالها العشرات واستسلم آخرون، لا يبدو أنّ الاحتلال قد يئس من استراتيجيّته تلك، التي مثّلت نموذجاً جديداً وحيّاً من آليات «التصدير المنهجي لعدم الاستقرار». ومع ذلك، لا يزال المجتمع الغزّي يظهر قدرته على بناء أشكالٍ جديدة من التنظيم الذاتي والتكافل الأهلي، وهو ما ينبئ بأنّ مشروع الاحتلال القائم على تحويل الجوع إلى خيانة، والفوضى إلى سياسة، ما فتئ عصيّاً على بلوغ خواتيمه.
المصدر: الأخبار اللبنانية

























































