اخبار فلسطين
موقع كل يوم -اندبندنت عربية
نشر بتاريخ: ١٣ تشرين الثاني ٢٠٢٥
تجارب تتلاقى حول جعل الصراع العسكري مادة سينمائية تتأمل في واقع الإنسان
التنقل بين الأفلام في مهرجان تسالونيك السينمائي الذي اختتم أول من أمس، يمنح القدرة على استشعار ما يوحّد هذا العالم أكثر مما يفرّقه. فعلى رغم اختلاف السياقات الجغرافية والسياسية والاجتماعية للأفلام المعروضة، من الممكن أن نشعر بالتجربة الإنسانية المشتركة.
تتردد معاناة متشابهة عبر كل حكاية من الحكايات المروية. فلسطين في 'تقسيم'، كاراباغ في 'بعد الحلم' وأوكرانيا في 'إلى النصر!'… هذه ثلاثة أفلام تشارك في الدورة السادسة والستين، كل منها يجري في بقعة مختلفة وزمن مختلف، إلا أنها تتقاطع في مواضيعها حول الحرب والذاكرة والآثار النفسية، لتشكل ما يمكن تسميته 'تجربة سينمائية تأملية' في واقع الإنسان بعد الصراع. في كل فيلم من هذه الأفلام الثلاثة، تتحول آثار الحرب إلى مادة سينمائية تعكس الفقد والانقسام والانتماء. أعمال تستكشف العلاقة بين الفرد والجماعة بعد سكوت المدافع، وتتعامل مع السينما كوسيلة للبحث والتأمل، بقدر ما توظّفها لتسجيل الحقائق التاريخية.
في فيلمها 'تقسيم'، تنسج الباحثة والسينمائية ديانا ألان عملاً تأملياً في الذاكرة الاستعمارية، مستخدمةً أرشيفاً بصرياً نادراً من فترة الاحتلال البريطاني لفلسطين، إلى جانب تسجيلات صوتية للاجئين فلسطينيين في لبنان. من خلال هذا المزج بين الصورة والصوت، تكشف ألان عن استمرارية آثار الاستعمار والاقتلاع القسري في الحاضر الفلسطيني، وعن الطرق التي 'تتذكر فيها الأجساد ما تنساه الإمبراطوريات'.
تتعامل ألان، أستاذة الأنثروبولوجيا في جامعة ماكغيل، مع الفيلم كأداة بحث إثنوغرافي أكثر من كونه وثيقة تقليدية. لا تسعى إلى تقديم سردية جاهزة أو مشهدية مألوفة عن المأساة الفلسطينية، بقدر ما تحاول كسر القوالب التي تحكم تمثيل الفلسطيني في الوجدان الغربي. تتحول الصورة المؤرشفة إلى ساحة مواجهة بين الماضي والحاضر: اللقطات التي صورها المستعمر تُعاد تصويرها على شريط 16 ملم، في فعل مقاومة مادية ضد هيمنة الملكية الفكرية الإمبريالية وضد فكرة أن التاريخ الاستعماري يجب أن يبقى في حوزة مؤسساته.
بالأبيض والأسود
اختارت ألان العمل بالأبيض والأسود وبالحركة اليدوية البطيئة كطريقة لإعادة 'تجسيد' المادة الأرشيفية وإحياءها من جديد. ترفض ألان الكشف عن هوية المتحدثين، معتبرةً ذلك رفضاً لثقافة المراقبة المستمرة التي تُمارس على الفلسطينيين، ولنزعة الاستهلاك الغربي للمعاناة.
في 'بعد الحلم'، تحول المخرجة الأرمنية كريستين هاروتونيان، جراح الحرب إلى لغة بصرية عن الحياة، الفقد، والانتماء. تدور الأحداث في إقليم كاراباغ، أرض مثقلة بالنزاع والذاكرة، حيث يبدأ جندي أرمني شاب رحلة مع فتاة مراهقة فقدت والدها، من غير أن تعرف بعد أنه قُتل على يد أبناء قريته ظناً منهم أنه عدو. ما يبدو في البداية رحلة هروب موقتة، يتحوّل تدريجاً إلى نظرة وجودية حول الحب والموت والهوية في وطن يعيش 'بعد الحرب، وقبل السلام'.
تعتمد هاروتونيان أسلوباً بصرياً تجريبياً، كاميرا محمولة تقترب من التجريد، وصور ضبابية تذيب الحدود بين الواقع والحلم. تتكرر الحركات والإيماءات والجمل في إيقاع موسيقي، يخلق حالة من التنويم البصري. في أحد حواراتها الصحافية، ترفض المخرجة وصف عملها بـ'فيلم حرب'، مؤكدةً أنها لا تسعى إلى تمثيل أمتها أو التحدث باسمها. كل ما توده هو التعبير عن الحياة نفسها في ظل التهديد الدائم. تقول: 'لست مؤرخة ولا سياسية. ما أفعله هو محاولة فهم الحياة من مكاني الخاص'. ومع ذلك، لا تنفصل تجربتها عن واقع الشتات الأرمني الذي تحمله المخرجة في وجدانها، ذلك الذي تسميه 'عقل الإبادة'، إحساس دائم باللاعدالة، وبأن الكارثة قد تتكرر في أي لحظة.
يأخذنا 'إلى النصر!' للمخرج الأوكراني فالنتين فاسيانوفيتش إلى أوكرانيا ما بعد الحرب، حيث لا تزال آثار الصراع واضحة على الأرض وفي النفوس. تدور الأحداث في مستقبل قريب، بعد نهاية العدوان الروسي، ويركز على حياة الناجين الذين يحاولون إعادة بناء وجودهم في وطن تحرر من الغزو لكنه لم يعد كما كانوا يتمنون. الشخصية الرئيسية، مخرج أفلام يؤدي دوره فاسيانوفيتش نفسه، يعيش حالة من الضياع والانفصال عن زوجته وابنته اللتين بدأتا حياة جديدة في فيينا، بينما هو يتمسك بالأمل في تحسن الأمور، محاطاً بالذكريات وخيبة الأمل وإصرار داخلي على التجديد.
الفيلم مزيج بين الخيال والسيرة الذاتية، يقدم المخرج من خلاله ما يسميه بـ'السيرة الجماعية' لجيل تشكّل على يد الحرب. يستخدم فاسيانوفيتش تقنيات تصوير دقيقة، لقطات طويلة وتركيبات بصرية تشبه اللوحات الفنية، ليجسد التناقض بين الحميمية والعزلة، محولاً التجربة الشخصية انعكاساً لمعاناة أمة بأكملها. الفيلم جزء من ثلاثية مستوحاة من الحرب، يبرز استمرار الصراع النفسي والاجتماعي حتى بعد انتهاء العمليات العسكرية. يركز المخرج على أهمية الثقافة والسينما كحاجز أمام التحديات الخارجية، مشدداً على أن الهوية الوطنية القوية تمنح المجتمع القدرة على الصمود. وفي الوقت ذاته، يطرح الفيلم سؤالاً وجودياً عن قيمة التضحيات: ماذا لو ذهبت كل جهود الدفاع عن الحدود سدى؟

























































