اخبار لبنان
موقع كل يوم -المرده
نشر بتاريخ: ٢٤ أيار ٢٠٢٥
كتب ناصر قنديل في 'البناء'
ليس عادياً هذا التزامن بين إحياء عيد التحرير وإجراء الانتخابات البلدية في الجنوب، والجنوبيّون يجدون أنهم بعد 25 عاماً على التحرير أمام تحرير ثانٍ، ومعركة مفتوحة لم تنته بعد حول مفهوم السيادة الوطنية، وأنهم في قلب ظروف معقدة داخليّاً وخارجيّاً، أشدّ صعوبة من تلك التي واجهوها في التحرير الأول، حيث كان الاحتلال ينزف تحت ضربات المقاومة، وكان الخط البياني للمواجهة بين الاحتلال والمقاومة يبشّر بقرب التحرير، وكانت الميليشيات اللبنانية التي انحازت للاحتلال وشكلت له حزاماً أمنياً قد أخذت تتفكك تحت ضغط فشلها في توفير الحماية للاحتلال أو الحلول مكانه في القدرة على مواجهة المقاومة، وكان المحيط الإقليمي والدولي، قد تيقن من لا جدوى من بقاء الاحتلال، ومن فقدان أي قيمة استراتيجية أو تكتيكية لبقائه، مقابل فرص واحتمالات يفتح الانسحاب بابها، مثل الدعوة لانسحاب القوات السورية آنذاك، وصولاً للدعوة لنزع سلاح المقاومة، وكل ذلك بذريعة أن انسحاب الاحتلال يسقط مبرر السلاح، حتى جاء القرار 1559 وحرب تموز 2006 يترجمان هذه الرؤية، وهي الرؤية المستمرة حتى الحرب الأخيرة، وما بعدها.
بخلاف ما يتوهّمه بعض المحللين العرب وكثير من خصوم المقاومة المحليّين، ليس هناك وجود يُحسَب له الحساب لتيارات جنوبية تريد محاسبة المقاومة على نتائج الحرب، سواء التوازنات التي اختلّ بعضها لصالح الاحتلال، أو الخسائر الجسيمة التي لحقت بالمقاومة وبيئتها وبنيتها والعمران الجنوبي عموماً، أو على مستقبل إعادة الإعمار، فالجنوبيّون في غالبيّتهم الساحقة يلتقون على عدة ثوابت ومسلمات، أولها أنه بمعزل عن جهوزية المقاومة لدخول حرب الإسناد التي وجدت نفسها في قلبها بفعل موقف أخلاقي يلتزم بفلسطين، فإن الذين يريدون من الجنوبيين محاسبة المقاومة على دخول حرب الإسناد كانوا سيقفون يحاسبون المقاومة لو لم تنخرط في هذه الحرب، وكان السقوط الأخلاقي للمقاومة في التنصّل من نصرة الشعب الفلسطيني، سيتكفل بإسقاط قوة ردعها التي تستند أصلاً إلى التفوّق الأخلاقيّ قبل الصواريخ، وكان التخلي يعني الخوف والجبن والتراجع، وهذا لن يبعد عن المقاومة سكين الاحتلال عندما يفرغ من غزة، وكانت قدرة غزة على القتال وقدرة جبهات إسناد مثل اليمن على التحرّك، موضوع تساؤل ما لم يدخل لبنان ومقاومته حرب الإسناد ويقودها.
لا يصدّق الجنوبيون عموماً كل الكلام الذي يقال لهم من كل حدب وصوب عن فرص لأمن واطمئنان بدون المقاومة وسلاحها، وهم أصحاب خبرة طويلة مع الاحتلال، ويدركون أن معادلة القوة وحدها تحميهم، وهم لا يرون في الأصوات المناوئة للمقاومة من يقدّم مشروعاً بديلاً لبناء قوة وامتلاك قوة، ويعرفون أن المرجعية الدولية القادرة على الضغط على الاحتلال وهي أميركا تبارك لـ”إسرائيل” كل جرائمها سواء بحق لبنان وبحق فلسطين، ويقارنون ما كان عليه الوضع خلال سنوات ما بعد حرب تموز 2006 وما هو عليه بعدما تسلّمت الدولة اللبنانية مسؤولية جنوب الليطاني، وبدا أن المقاومة لم تعد قادرة على لعب الدور السابق، ويعرفون أن لا مجال للمقارنة وأن لا شيء يوحي بأنهم بعد انسحاب الاحتلال ووقف اعتداءاته سوف ينعمون بالأمن والاطمئنان كما فعلوا طوال سبعة عشر عاماً، عندما كانوا يبنون منازلهم، بل قصورهم على خط الحدود ويسهرون على الطرقات الفاصلة بين الأراضي اللبنانية والأرض الفلسطينية المحتلة حتى الفجر، ويعرفون أن معادلة التوازن النفسي بينهم وبين المستوطنين وجنود الاحتلال كانت مختلّة لصالحهم، دون أن تظهر المقاومة علناً، لكنها كانت سر هذه المعادلة.
يعرف الجنوبيون أن الكيد والحقد ضد المقاومة داخل لبنان وخارجه لا يميزان بين المقاومة كفصيل سياسيّ وبين الشعب في الجنوب، وأنه إذا تخلص هؤلاء من سلاح المقاومة وقوتها ومهابتها سوف يلحقون الذل والمهانة بما يُسمّى بيئة المقاومة والمقصود كل الجنوبيين، وهم يعلمون صدق المقاومة في السعي لتجنيبهم أي خسائر إضافية، وسعيها لتعويضهم عن الأضرار التي لحقت بهم خلال الحرب، ويعرفون أن التعقيدات التي يتمّ وضعها لعرقلة تمويل الإعمار تهدف إلى إذلالهم ولا خلفية لها إلا الحقد والكيد ومحاولة فرض توازنات طائفية ومناطقية جديدة، تعني الجنوبيين مباشرة قبل أن تعني المقاومة.
لكل ذلك يذهب الجنوبيون اليوم إلى الانتخابات البلدية ليقدموا المعطيات اللازمة لكل من يريد أن يبني استنتاجاته على الوقائع، في الجواب عن سؤال حول موقف الجنوبيين من مقاومتهم، فيقطعون الشك باليقين تحت معادلة أن الجنوب أكثر تمسكاً بالمقاومة وتماسكاً معها، ونتائج التزكية وحجم الزحف الشعبي إلى القرى والبلدات بينما الغارات الإسرائيلية تطال الكثير من مناطق الجنوب، هي رسائل سوف تتبلور صورتها النهائية بصيغة استفتاء على مبايعة المقاومة تمهيداً لانتخابات نيابية تجدد التفويض بزخم أكبر، ومَن يملك عقلاً حراً سوف يستطيع القراءة ومَن ملأ السواد قلبه لا أسف عليه ولا مَن يحزنون.