اخبار لبنان
موقع كل يوم -درج
نشر بتاريخ: ١٦ تموز ٢٠٢٥
كلام توم براك عن الخطر الوجودي على لبنان، واستعادته إلى بلاد الشام، ينطوي على شيء من الهجر السياسي، الذي تنكبه رجل هو مبعوث لدولة يقودها رئيس غالباً ما لامست أفكاره جنوناً هي صريعة لحظته، إلا حين تكون الفكرة من بنيامين نتانياهو
الكلام الأخير للمبعوث الأميركي توم براك عن 'خطر وجودي' على لبنان، وإلحاقه ببلاد الشام في حال لم يتمكن من الالتزام بنزع سلاح حزب الله، يفترض واقعاً لا يشبه في راهنه الواقع الذي حكمنا فيه نظام حافظ الأسد بعد اتفاق الطائف، وربما قبله. وكأن براك يبحث لنا عن 'وصي'.
كان نظام حافظ الأسد حاجة إقليمية، تبدّت حينها كأهم عوامل قوته التي يفتقد إليها النظام الحالي. كان التموضع الإقليمي مرهوناً بضبط الفصائل والحركات الفلسطينية واللبنانية التي تأتمر من دمشق، كأهم موارد هذه الحاجة. ثم جاء غزو العراق للكويت، وحرب تحريرها، وموقع سوريا نظاماً وجغرافياً، ليكثف حاجة أميركية لنظام يضفي، من موقعه الممانع تحديداً، قابلية تخفف صورة تلك الحرب في وعي عربي تقيم فيه الولايات المتحدة كعدو.
انتهت تلك الحرب إلى تحرير الكويت، وأفضت حوافزها إلى وصاية سورية امتدت الى عقدين ونصف العقد، وبدا معها لبنان 'شامياً' أكثر مما اقتضته تلك الوصاية.
كان حافظ الأسد، كحاكم وكشخص، قد أحال انقلابات سوريا المتناسلة إلى التاريخ، وصارت بلاد الشام في عهده المديد مرادفة لاسمه، وهو من تمرّس في حكمها. وكان قدر لبنان واللبنانيين أن يُحالوا إليه، وبإرادتين عربية ودولية، وليس بلا فائض دلالة أن خروج الجيش السوري من لبنان، والنظام تالياً، قد وقعا بعد وفاة الرجل، حين بدد وريثه الكثير من تلك القوة، وابتداءً من لبنان، الذي قطع حافظ الأسد منه وفيه تاريخ الانقلابات التي سبقت سيطرته على سوريا ولبنان.
بلاد الشام التي حذّر توم براك من عودة لبنان إليها، تفتقد راهناً الكثير من دهاء حافظ الأسد، كافتقادها قوة نظامه. وبافتراض أن حاكم بلاد الشام الراهن، أحمد الشرع، يُبدي في مساره السياسي شيئاً من الحنكة، إلا أن نظامه يفتقد القوة التي راكمها الأسد الأب، في السياسة وفي الأمن، لأكثر من ثلاثين عاماً. نظامٌ وليد، هو في أحسن الأحوال يحكم سوريا، أو يكاد، بوقائع يتداخل فيها المحلي بالإقليمي، فيما تسييله كـ'حاجة دولية وازنة' تتقاطع مع حوائج الماضي، تقف راهناً على 'قصّ الهلال الشيعي' والسلام مع إسرائيل، وهما ليسا مؤشرين إلى قوة النظام، وإنما إلى الاستثمار في ضعفه، الذي يبدو مثقلاً بموانع كثيرة للقوة، وليس أقلها مذهبية مفرطة تغذي مساراً سياسياً شائكاً، تشي به يومياً وقائع الاشتباكات المتنقلة مع طوائف الديموغرافيا السورية.
في وعي سوري مسكون بفلسطين وقضيتها، كثّف حافظ الأسد استثماراً رائجاً بتلك القضية، وبالعداء لإسرائيل، لتثبيت حكمه. فيما راهن أحمد الشرع، يشي بأن الرجل يباشر قطيعة مع ذلك الوعي، وبافتراض راجح أن مآسي الشعوب تتخفف من وعي كهذا، حين تكون نكبتها على يد 'منظّريه' وطغاته.
عودٌ إلى توم براك وحديثه عن استعادة لبنان إلى بلاد الشام. تحدّث المبعوث الأميركي عن خطر وجودي، وذكّرنا بأن مشاربه تتأتى من منابع ثلاثة: إسرائيل، وإيران، وسوريا التي تستعيد قوتها.
التخفّف اللاحق من هذه المقاربة لم ينسف متنها، الذي ظل طاغياً لبنانياً، وافتقد بالتوازي أي حساسية سورية تجاهه.
تسييل كلام براك لبنانياً، أتى ليخدم سردية 'حزب الله' عن التمسك بسلاحه، الذي ربط المبعوث الأميركي الخطر الوجودي للبنان به. والمرء قد يعوزه الكثير من حسن الظن ليفترض أن براك أراد بكلامه خدمة الحزب، لكنه، في غالب الظن، مؤشر الى اعتلال سياسي في عقل المبعوث الأميركي عن مقاربة موضوع نزع السلاح، ومتأتٍ على الأرجح من الرد اللبناني الرسمي حوله، بحيث وشى 'التهديد' بأن رد لبنان لم يتقاطع مع الرؤية الأميركية، على رغم فائض الترحيب الذي كان أبداه لحظة استلامه من رئيس الجمهورية.
و'حزب الله' لم ولن يفوّت طبعاً فرصة أتاحها كلام براك، أقله في بيئته، وبالتوازي مع طفو إعلامي متعمّد عن القبض على خلايا إرهابية. يستدعي براك إذاً لبنان إلى بلاد الشام، في ظل نظام مذهبي معادٍ للحزب، ويباشر الإلحاق على وقع حروب طائفية تتسع لها كل الجغرافيا السورية، وراهنها في محافظة السويداء، كتَكثيف للبعد المذهبي لها.
المفارقة أن الصراع بين النظام والدروز، غالباً ما ترتفع في وقائعه أصوات درزية وازنة لشخصيات اعتبارية، تطلب الحماية من إسرائيل، التي سيباشر أحمد الشرع معها، ومن باكو، مساراً تفاوضياً قد يفضي ربما إلى سلام يعتقد رئيس سوريا الجديد أنه قد يرفع عنه مشقة 'استدعاء' الدروز إلى بيت طاعته.
بوقائع سوريا الراهنة، وبواقع يشي بأن نزع سلاح 'حزب الله' يبدو مهمة سياسية أميركية مستعصية، فأقدار اللبنانيين تتأرجح بين الاستعصاء المذكور والخشية من العودة إلى حرب لا يزال بنيامين نتانياهو ينتظر إشارتها الأميركية.
كلام توم براك عن الخطر الوجودي على لبنان، واستعادته إلى بلاد الشام، ينطوي على شيء من الهجر السياسي، الذي تنكبه رجل هو مبعوث لدولة يقودها رئيس غالباً ما لامست أفكاره جنوناً هي صريعة لحظته، إلا حين تكون الفكرة من بنيامين نتانياهو.