عين الحلوة: عاصمة المشرق العربي
موقع كل يوم - قد يكون أعظم إنجاز إيراني، هو ما حققه الحاكم الأميركي للعراق، بول برايمر، بحلّ الجيش العراقي. بعد ذلك، بات كل شيء سهلاً. لكن ليس كل الفضل لبرايمر. فصدام حسين بحروبه وعدوانيته حوّل هذا الجيش إلى آلة قتل للعراقيين أنفسهم وخطر مدمر لجيران العراق كلهم. مَسَخَ صدام حسين جيشه وجعله كائناً وحشياً كان يجب التخلص منه.
على النحو ذاته، فعل حافظ الأسد -ومن ثم وريثه- بالجيش السوري الذي لا يجيد أي قتال إلا ضد السوريين واللبنانيين والفلسطينيين.
وعلى هذا المنوال، أسوأ أو أقل سوءاً، كان نهج عمر البشير في السودان وعلي عبدالله صالح في اليمن، وبالطبع معمر القذافي في ليبيا، ولا ننسى جيش محمد سياد بري في الصومال.
ومن بطن هذه الجيوش الممسوخة، ومن ثم المتفسخة، ولدت ألوية وكتائب وعصابات وميليشيات بقادتها المعتوهين والمجرمين، والتي تعيث بالأرض قتالاً ومجازر ودماراً، بما أحال دولها إلى خرائب وكتل بشرية بائسة وهائمة.
ومن رحم حروب أهلية، معلنة أو مكتومة، كما من جوف أنظمة جائرة وشديدة التسلط والقسوة، كذلك من أحشاء مجتمعات متخثرة ومظلمة وممزقة.. ومن تراث يمجّد حملة الكلاشينكوف وزارعي العبوات الناسفة، ولد أبو الجماجم وأبو الظلام وأبو نضال (وما شابه) في سبعينات الأردن ولبنان، قبل أن يولد بن لادن وأبو مصعب الزرقاوي وباقي سلالتهما.. وصولاً إلى أبو محجن أو أبو محمد الجولاني أو أبو بكر البغدادي.
وفي الأثناء، كانت 'الرعاية' الإقليمية الإيرانية والعربية والحضانات الأهلية المحلية، تدعم وتمدّ هذه العصابات والمنظمات بالشبان والسلاح والمال والنصائح أو الرغبات.. ناهيك عن الفتاوى الضرورية للدنيا والآخرة في سوق الدم. فتنامت قوتها وسطوتها بالتزامن مع تحول الجيوش الوطنية نفسها إلى رديف شبيه بتلك الميليشيات، وظيفة ودوراً. أي الاقتتال فرقاً وشللاً متناسلة ومنشقة ومتذررة في قبائل أو عصابات، أو شلل أحياء وزمر زواريب.
وفي محصلة جهود أربعة عقود على الأقل، ما عاد ممكناً الاستدلال على 'دولة وطنية' أو 'مجتمع'، عدا عن تقوّض العمران وموت العواصم نفسها، التي باتت عبارة عن اكتظاظ اسمنتي بشع غارق بالفوضى العدوانية والعنف الذكوري البدائي.
فلا أحد حقاً يرغب بسياحة في صنعاء وعدن أو الخرطوم أو طرابلس الغرب أو بغداد والموصل والبصرة أو دمشق وحلب أو بيروت (الغربية منها خصوصاً). هذا إضافة إلى أن 'الأسوياء' من سكان تلك الأمكنة بمعظمهم لا يرغبون إلا بالهروب منها، ولو بالارتماء بالبحر أحياناً. فالسياحة الوحيدة المزدهرة على حد علمنا في المشرق العربي هي سياحة القبور وزياراتها الملهمة بالبحث عن الخلاص.
ومناسبة قولنا كل هذا، هي أحداث مخيم عين الحلوة. ففي هذه البؤرة العمرانية المبتكرة تحت اسم 'مخيم اللاجئين'، والتي لا تتعدى مساحتها كيلومتراً مربعاً فقط.. في هذا المكان البائس، المُصمَّم لديمومة البؤس وتوطيده باسم 'القضية'، يدور اقتتال بين ما بقي من 'حركة فتح' المتشظية، وعصبة 'الشباب المسلم' المتناسلة من عصابات أخرى (بن لادنية وداعشية وحمساوية وجهادية ومأجوري مخابرات سورية وأجهزة حزبية، وشذاذ آفاق أيضاً). ويحدث هذا القتال تحت أنظار ما يسمى دولة لبنانية، لا يعرف سياسيوها انتخاب رئيس، ولا تستطيع حكومتها تأمين رواتب موظفيها، ولا يقدر قضاؤها على إنجاز تحقيق عدلي واحد. كما تدور المعارك تحت أنظار جيش لبناني لا يحتمل 'التورط' في إنهائها، أو التدخل فيها.. وإن كان ذلك يطيح ببداهة السيادة الوطنية التي صارت افتراضية لكثرة انتهاكها على مدى عقود، من كل اتجاهات الحدود إلى قلب العاصمة.
ومعركة عين الحلوة يناط بها، كما كل معارك 'الاقتتال الأخوي' على مدى خمسين عاماً، توحيد الجبهات والساحات وتمهيد الطريق نحو فلسطين أو 'تأمين' الدرب إلى الجنة.
وأذكر أن حزباً عريقاً لا يتنازل لا عن اسكندرون ولا عن قبرص ولا عن جبال طوروس وزغروس والأحواز وسيناء وفلسطين والكويت أيضاً، ويستيقظ صباحاً هاتفاً بوحدة الأمة وينام حالماً بإبادة اليهود.. استشرس في قتال ما بين شارع جاندارك وشارع فردان في بيروت، أو في كيلومتر مربع واحد بين جناحيه المنشقين، وأوغل في عمليات التصفية والاغتيالات في صفوفه وزمره المسلحة، من غير 'توحيد' ولو زاروب واحد مشترك، وانتهى 'الصراع' إلى بنايتين (حرفياً) متعاديتين في بيروت، تجري فيهما اجتماعات استراتيجية ترسم آفاق مواجهة الامبريالية والصهيونية والغطرسة الغربية.
ويصح هذا في حي البركسات أو حي الطوارئ بمخيم عين الحلوة، كما بين حاجزين أو معبرين في الشمال السوري.. إلخ.
وعلى هذا كله تقوم 'السياسة' برمتها، والاقتصاد والثقافة والتربية أيضاً. وهو ما يبشرنا بالمستقبل المُشرق 'بإذن الله'.