اخبار لبنان
موقع كل يوم -ام تي في
نشر بتاريخ: ٥ تموز ٢٠٢٥
في ظل مشهد إقليمي مضطرب، يتجه لبنان إلى لحظة سياسية وأمنية مفصلية، حيث يتحوّل من ساحة متأثّرة إلى ساحة اختبار لتوازنات ما بعد المواجهة المفتوحة بين إيران وإسرائيل، ولما يمكن أن ينتج عن التدخل الأميركي المتجدد، والذي يُعبَّر عنه صراحة من خلال الزيارة الثانية للمبعوث الخاص توم بارّاك إلى بيروت. فالمقترح الذي حمله بارّاك في زيارته الأولى لا يبدو أنه يهدف فقط إلى منع انزلاق لبنان نحو حرب شاملة، بل إلى إعادة صياغة قواعد اللعبة السياسية والأمنية في الداخل اللبناني، بغطاء إقليمي ودولي.
استدعى هذا المقترح، الذي ما زالت تفاصيله غير معلنة بالكامل، من حزب الله مقاربة شديدة الحساسية، عنوانها: الطمأنينة والضمانات. فالطرف الأقوى ميدانياً في لبنان لا يريد الانجرار إلى تسوية يخرج منها خاسراً أو معزولاً، وهو تالياً يحاول فرض شروطه على أي تسوية تُطرح، سواءٌ كانت جزئية أو شاملة. وتتلخص مطالبه بثلاثة محاور أساسية:
1. الشق الأمني – السياسي: يشمل وقف سياسة الاغتيالات التي يعتبر الحزب أنها طالت كوادره خلال الفترة الماضية ضمن عمليات «نظيفة» وغامضة، وهي رسائل أمنية متعددة الجهات. كما يصرّ على إطلاق سراح الأسرى، خصوصاً الذين أُسروا في سياق المواجهات الأخيرة أو في عمليات إسرائيلية نوعية داخل الأراضي السورية واللبنانية.2. إعادة الإعمار والاقتصاد السياسي: لا يريد الحزب أن يكون الجنوب ساحة عقاب جماعي أو مادة تفاوضية تخضع إلى معايير المجتمع الدولي فقط. ولذلك، يطالب بتحديد آلية إعادة الإعمار بوضوح، سواءٌ عبر الدولة اللبنانية أو من خلال قنوات خاصة، مع ضمانات بعدم استخدام المساعدات كأداة ابتزاز سياسي.3. العلاقة مع دمشق: وهنا تكمن العقدة الأعمق. فالحزب، الذي شكّل منذ 2011 ركيزة الدفاع عن النظام السوري السابق، يواجه راهناً واقعاً مغايراً عنوانه الإدارة السورية الجديدة التي تتشكّل ملامحها بإطّراد على إيقاع تفاهمات دولية وإقليمية. من هنا، يصرّ الحزب على صوغ علاقة تحفظ مصالحه واستراتيجيته الطويلة الأمد داخل سوريا، خصوصاً في ظل الحديث عن إعادة رسم خرائط النفوذ الإيراني–الروسي–الأميركي هناك.
في ضوء هذه المعادلة، وعد الحزب بردّ على المقترح الأميركي خلال أيام قليلة. الردّ، المنتظر بترقّب في بيروت والخارج، سيتجاوز البُعد الإعلامي إلى تحديد طبيعة المرحلة المقبلة. فهل سيقبل الحزب بالمقترح بشروط؟ أم يرفض بصريح العبارة بما ينذر بمزيد من التصعيد؟
اللافت أن خطاب نائب الأمين العام لحزب الله، الشيخ نعيم قاسم، الذي تضمّن نبرة حاسمة ضد أي حلول يعتبرها الحزب مشبوهة أو تنطوي على تنازلات، رأى فيه بمثابة الرفض الأولي لمقترح بارّاك. إلا أن غموض توقيت تسجيل الخطاب، ما إذا كان قبل أو بعد وصول المقترح الأميركي، أبقى باب التأويلات مفتوحاً. فالحزب الذي يبرع في إدارة الوقت والرسائل المتعددة المستويات، قد يكون يستثمر الغموض كجزء من أوراقه التفاوضية.
وفي واشنطن، لم تلقَ هذه المقاربة قبولاً، إذ تدرك الإدارة الأميركية تمامًا أن أي رد لبناني لا يتضمن التزامات فعلية وإجراءات ملموسة، يُعدُّ بمثابة محاولة للالتفاف على جوهر المبادرة. من هذا المنطلق، جاءت زيارة مستشار وزير الخارجية السعودي، الأمير يزيد بن فرحان، كخطوة تصحيحية تهدف إلى إعادة ضبط المسار، وتوجيه رسالة واضحة بأن ملف السلاح بات أولوية لا تحتمل المزيد من التأجيل، وأن أي مناورة في هذا السياق ستقابل بإجراءات أكثر صرامة. وقد تشكّل هذه الزيارة الفرصة الأخيرة للبنان لتعديل موقفه قبل وصول الموفد الأميركي بعد غد الإثنين ، والذي يُتوقع أن يحمل معه تصورًا حاسمًا، وربما نهائيًا، للموقف الأميركي.
الواضح أن استمرار لبنان في سياسة المراوغة سيؤدي إلى تصعيد الضغوط، أخطرها تمثّل في الغارة الجوية الإسرائيلية على خلدة، على مسافة قريبة من بيروت، وبضع مئات من الأمتار عن المطار والضاحية الجنوبية. هذا الهجوم يشكل مؤشرًا إضافيًا على التصعيد المتسارع، لا سيما أن موقع الاستهداف بحد ذاته يحمل دلالات تتجاوز طبيعة الهدف. وعليه، جاءت الرسالة الإسرائيلية مزدوجة: الأولى موجهة إلى الحزب، مفادها أن مرحلة التساهل انتهت، والثانية إلى المسؤولين اللبنانيين بأن هامش المناورة يضيق، وأن اتخاذ القرار بات ضرورة ملحَّة لتفادي الانفجار.في موازاة ذلك، تتفاعل في بيروت مخاوف متعددة. تنظر القوى السياسية التي تطلق على نفسها سيادية، بقلق إلى أي تسوية تمنح حزب الله شرعية مضافة أو امتيازات جديدة، في حين تخشى قوى أخرى من أن تفويت فرصة التفاهم سيؤدي إلى كارثة أمنية جديدة لا يحتملها لبنان، المنهك أصلاً على كل المستويات الاقتصادية.