اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ١٤ تشرين الأول ٢٠٢٥
مشاهد من قمة شرم الشيخ: حين وُقّعت الخطة بلا إسرائيل ووقف ترامب يبيع السلام! #عاجل
كتب زياد فرحان المجالي -
كنا هناك في شرم الشيخ، حيث اجتمع ثلاثون زعيمًا من الشرق والغرب، ووقّعوا على خطة سلام بلا إسرائيل، كأنّ التاريخ أراد أن يكتب فصلًا جديدًا من حربٍ لم تنتهِ بعد، قمةٌ حملت وجوهًا كثيرة وحقائق قليلة، بين يدين صافحت وبسمات تجهل أن خلفها ركامًا ما زال يتنفس في غزة.
لم تكن القمة عادية ولا عابرة، بل كانت لوحة سياسية مدهشة في تفاصيلها، ترامب يتقدّم القاعة كمن يدخل المسرح في مشهده الأخير، يبتسم، يلوّح، ثم يطلق عباراته التي تشبهه: 'ربما أعاني من اضطراب في الشخصية، لكني أحب الأقوياء أكثر من الضعفاء مثل أردوغان.' جملة قالها ببرود، لكنها كشفت ما في ذهنه من معادلة القوة لا العدالة، سلام الأقوياء لا حقوق الضعفاء.
جاء إلى شرم الشيخ بعد أن ألقى خطابه في الكنيست الإسرائيلي، وكأنه ينتقل من مسرح الحرب إلى منصة الختام، لا يحمل اتفاقًا جديدًا، بل يبحث عن مشهد ختامٍ يصلح للكاميرا والتاريخ معًا.
في القاعة جلس السيسي وأردوغان وتميم، ووقّعوا وثيقة لم يُعلن نصها، وثيقة تقول إن الحرب انتهت، لكنّ الدم لم يجفّ، وإن واشنطن قادرة على أن تتحدث باسم الغائبين كما باسم الحاضرين.
غابت إسرائيل عن الطاولة لكنها حضرت في كل بندٍ من البنود، في نزع سلاح حماس، وفي الإعمار، وفي تبادل الأسرى وضمان الأمن، وكأنّ الغائب لم يكن غائبًا.
قال السيسي لترامب بهدوء المصريين حين يريدون شيئًا: 'أنت الوحيد القادر على جعل السلام واقعًا.'
فأجابه ترامب بابتسامة المفاوض البارد: 'حماس تعرف أين الجثث وستجدها بالتنسيق مع إسرائيل.'
جملة صغيرة لكنها لخصت فلسفة القمة كلها، بين من يبحث عن جثة ومن يبيع وهمًا اسمه السلام.
أكثر ما لفت الأنظار غياب بنيامين نتنياهو، الذي أعلن مكتبه أنه لن يحضر بسبب العيد، لكنّ الحقيقة أنه خاف من لقاء محمود عباس أمام عدسات العالم. أردوغان ورئيس وزراء العراق هدّدا بالانسحاب إن حضر، فانسحب الرجل قبل أن يُحرج نفسه، فالغائب كان حاضرًا في كل تفصيل، في شروط الاتفاق، وخلف الأبواب، وفي الظل الذي لا يغيب.
في المقابل، كان الغياب الإيراني متعمّدًا، بعد ضرب منشآتها النووية وانهيار المفاوضات، لتبقى طهران الصورة السلبية التي تبرّر كل حضور عربي مدعوم أميركيًا.
أما قطر فكانت الحاضرة الأكثر نشاطًا، تتنقّل بين الجميع كمن يعرف طريقه جيدًا، تتحدث بصوتٍ منخفض وتكسب بالهدوء ما لا يُكسب بالصراخ، فكانت المكافأة أن تُوصف بالوسيط الذهبي.
القمة لم تُعقد من أجل الفلسطينيين، بل كانت استعراضًا لعودة واشنطن إلى القيادة. استخدم ترامب لغة المقاول أكثر من لغة السياسي، قال: 'لدينا فرصة لا تتكرر في العمر لنطوي صفحة الصراعات القديمة.'
ثم أضاف: 'إعادة إعمار غزة سيكون الجزء الأسهل، فنحن نعرف كيف نبني أفضل من أي أحد في العالم.'
كانت الجملة الأخيرة بيت القصيد، فالذي دمّر سيبني، والذي باع السلاح سيبيع الإسمنت، سلامٌ اقتصادي يخدم الممول لا المتألم، وينقذ الصورة لا الإنسان.
وفي سوق السياسة الذي يحوّله ترامب إلى معرضٍ لغروره، لم يكتفِ بتسويق 'السلام الأميركي”، بل باع الإعجاب كما يبيع الصفقات.
ابتسم لرئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني وقال أمام الحضور: 'إيطاليا محظوظة بامرأة قوية مثلك… لو كنتِ في واشنطن لجعلتِها أفضل.'
كانت كلماته أشبه بإعلانٍ انتخابيٍّ مصغّر، فيه جرعة من الغزل وشيء من التفاخر، فترامب يرى في كل امرأةٍ جميلة فرصةَ دعايةٍ، وفي كل زعيمٍ ضعيف فرصةَ صفقةٍ.
ضحكت ميلوني بخجلٍ دبلوماسيٍّ محسوب، بينما همس بعض الحاضرين أن الرجل ما زال يعيش داخل حملته الانتخابية، يغازل كما يفاوض، ويتصرّف كما لو أنّ الكاميرا ما زالت تنتظره ليقدّم فصلًا جديدًا من جنون العظمة أمام العالم.
في مشهدٍ آخر صافح ترامب محمود عباس بعد قطيعةٍ امتدت ثمانية عشر عامًا، اللقاء الذي مُنع في واشنطن تم في شرم الشيخ كصورة مجاملة أكثر منه مصالحة، ترامب أراد أن يظهر كصانع سلامٍ متسامح، وعباس ابتسم كما تبتسم الشعوب المرهقة حين تُفرض عليها المسرحيات باسم الواقعية.
في القاعة كان الزعماء يضحكون، أردوغان يمازح ميلوني قائلاً إنها تبدو رائعة وينصحها بالتوقف عن التدخين، وترامب يسأل رئيس وزراء النرويج ساخرًا لماذا لم تفز بجائزة نوبل. ضحك يشبه الخدر، كأنهم يوقعون على نص لا يخصّهم. أوروبا تراقب، والعرب يصفقون، وواشنطن تكتب المشهد على طريقتها.
يعرف ترامب أن هذه ولايته الأخيرة، وأن تاريخه السياسي يقترب من نهايته، لكنه، بعقلية رجل الأعمال، لا يغادر السوق قبل أن يترك ماركة باسمه، يسوّق نائبه كوريثٍ لمدرسته السياسية، ويحوّل الحزب الجمهوري إلى حزبٍ 'ترامبيٍّ” جديد يعيش بعده، فإن فاز سيصنع خليفة على مقاسه، وإن خسر سيترك تيارًا يرفع شعاره 'أميركا أولًا”، ليحارب بالنيابة عنه ويعيد إنتاج صوته بعد غيابه، فهو لا يخطط للرئاسة بقدر ما يخطط للبقاء في الوعي الأميركي بعد خروجه من المسرح.
وفي الخلفية تبقى غزة تنتظر، مدينةٌ بلا كهرباء تسمع عن إعمارها في قاعة مكيفة، وشعبٌ يسمع اسمه في بندٍ لا يعنيه، بيانٌ لم يُنشر كأنه كُتب بلغة الممولين لا بلغة الضحايا، بين أنقاضها يراقب الناس ما يُقال باسمهم دون أن يُستشاروا، يبتسم العالم وتبكي المدينة.
حين غادر ترامب القاعة وصعد إلى الطائرة الرئاسية، ترك وراءه مشهدًا مكتمل الرموز، قمة بلا إسرائيل ووثيقة بلا نص وتصفيق بلا مضمون، لكنه لم يكن عبثًا، بل تجربة جديدة لرسم الشرق الأوسط بالاتفاقات لا بالخنادق، بالمصالح لا بالمبادئ.
شرم الشيخ كانت مرآة العالم في لحظة اختلط فيها الضوء بالوهم، كلٌ رأى فيها ما يريد أن يصدّق، أما الفلسطيني فظلّ خارج الكادر، يتأمل المشهد من الركام ويسأل نفسه: هل هذا هو السلام، أم هدنةٌ بوجهٍ جديد؟