اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ٢٨ تشرين الأول ٢٠٢٥
اتفاق إبراهيم ومسار إبراهيم: علاقة تناقض وخداع إبداعي
المهندس سعيد بهاء المصري
ليست اتفاقيات إبراهيم مجرد ترتيبات دبلوماسية لتطبيع العلاقات بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، بل هي جزء من مشروع أعمق يُعيد تشكيل الوعي الجمعي في المنطقة تحت لافتة 'الفلسفة الإبراهيمية”.
وراء هذا الخطاب الهادئ، تتقاطع المصالح الدينية والسياسية والثقافية في محاولة لإنتاج هوية جديدة تُذيب الخصوصيات العقائدية والقومية، وتُعيد ترتيب موازين القوى في الشرق الأوسط تحت مسمى 'التعايش الإبراهيمي”.
الخلفية السياسية للاتفاقيات
أُعلنت اتفاقيات إبراهيم رسميًا في الخامس عشر من أيلول عام 2020 في البيت الأبيض، بحضور الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزيري خارجية الإمارات والبحرين.
تهدف الاتفاقيات إلى تطبيع العلاقات بين إسرائيل وهذه الدول عبر فتح السفارات وتبادل الرحلات الجوية وتوسيع التعاون الاقتصادي والتكنولوجي والأمني.
وقد اختير اسم 'إبراهيم” لإضفاء بعد ديني وإنساني يوحي بأنّ الاتفاقات تُعيد إحياء روح السلام بين أتباع الديانات السماوية الثلاث.
الفلسفة الدينية وراء التسمية
يقوم الخطاب الرسمي للاتفاق على فكرة أن الأديان الإبراهيمية الثلاث تشترك في أصل واحد وتدعو إلى السلام والتعايش، وأن هذه المشتركات يمكن أن تكون جسرًا للتفاهم بعد قرون من الصراع.
لكن هذا الطرح، رغم بريقه الرمزي، يُخفي بعدًا أيديولوجيًا يراد منه تحويل 'الإيمان المشترك” إلى غطاء سياسي يُعيد شرعنة الوجود الإسرائيلي في قلب المنطقة.
القراءة النقدية للفلسفة الإبراهيمية
يرى كثير من المفكرين العرب والمسلمين أن 'الفلسفة الإبراهيمية” ليست دعوة إلى التوحيد أو التقارب الروحي، بل محاولة لإعادة صياغة وعي الشعوب على نحوٍ يتجاوز الانتماء القومي والديني.
فهي تسعى إلى تطبيع سياسي مموّه بالدين، يتجاهل جذور الصراع المتمثلة بالاحتلال وحقوق الشعب الفلسطيني، ويستبدل مبدأ العدالة بمبدأ 'السلام الاقتصادي”.
بهذا، يتحول إبراهيم من رمزٍ للتوحيد إلى رمزٍ للتعايش المشروط بالتنازل.
البعد الجيوسياسي
الغاية العميقة من اتفاقيات إبراهيم هي إعادة بناء منظومة التحالفات الإقليمية في مواجهة إيران وتركيا، ودمج إسرائيل في الإقليم بوصفها مركزًا للتكنولوجيا والابتكار، مع تعزيز الدور الأميركي كضامن لتوازن القوى الجديد.
لكن هذه التحالفات السياسية لم تكن سوى الطبقة السطحية لمشروعٍ أكبر وأقدم: 'مسار إبراهيم”.
مسار إبراهيم: الجغرافيا في خدمة الرمزية
ظهرت فكرة 'مسار إبراهيم” عام 2004 على يد الباحث الأميركي ويليام يوري، كطريقٍ للحج والمشي الروحي يتتبع خطى النبي إبراهيم عليه السلام من مدينة أور في جنوب العراق إلى مكة المكرمة مرورًا بسوريا والأردن وفلسطين.
قُدِّم المشروع كـ'جسر للسلام بين أتباع الديانات الثلاث”، لكن خلف هذه اللغة الإنسانية كانت تُعاد صياغة الوعي الجمعي الإقليمي لتتحول هوية المنطقة من 'عربية–إسلامية”إلى 'إبراهيمية–متعددة الأديان”.
الهندسة الخفية للهوية الجديدة
تحوّل 'مسار إبراهيم” لاحقًا إلى أداة ناعمة لتكريس مفهوم 'الشرق الإبراهيمي الجديد”، حيث تُصبح إسرائيل جزءًا طبيعيًا من النسيج الثقافي، وتُغلف فكرة التطبيع بغلاف من الرحلات الروحية والحوارات بين الأديان.
وهكذا أُدمج البعد الروحي والثقافي (المسار) بالبعد السياسي والاقتصادي (الاتفاقيات) في مشروع متكامل يهدف إلى تطبيع الوعي قبل تطبيع العلاقات.
التناقض اللاهوتي: من التلمود إلى الدين الإبراهيمي
في العقيدة اليهودية الأرثوذكسية، كما ورد في التلمود البابلي، اليهود هم 'شعب الله المختار”، والأمم الأخرى (جوييم) خُلقت لخدمتهم، ولن تتحقق مملكة الله على الأرض إلا بقيادة أحفاد داود.
كيف يمكن إذاً لليهودية التلمودية أن تتنازل عن هذا المفهوم لتذوب في 'دين إبراهيم الواحد”؟
الجواب أن اليهود لا ينوون التخلي عن التلمود ولا عن مبدأ الاختيار، بل المشاركة الرمزية في المشروع طالما يُبقي لهم الدور المركزي.
فـ'مسار إبراهيم” لا يطلب من اليهود التنازل عن عقيدتهم، بل من المسلمين والمسيحيين إعادة تأويل دياناتهم ضمن إطار 'الروح الإبراهيمية” التي تُكرّس مركزية إسرائيل بوصفها الحامل الأصيل للعهد الأول.
من التفوق الديني إلى الهيمنة الرمزية
ما يجري هو نقل فكرة التفوق اليهودي من المجال الديني إلى المجال الثقافي والسياسي، بحيث تتحول إسرائيل إلى 'المركز الروحي الإبراهيمي” للمنطقة.
تُعاد صياغة القدس كرمز مشترك يجتمع حوله الجميع، لكن إسرائيل تبقى صاحبة الكلمة العليا فيه، فيتحول الدين من منظومة إيمانية إلى أداة لإدارة النفوذ.
هوية ما بعد القومية
المشروع لا يسعى إلى تأسيس ديانة جديدة بقدر ما يسعى إلى بناء هوية ما بعد قومية تُذيب الانتماءات الوطنية والدينية في منظومة واحدة تُدار من مراكز القوة الاقتصادية والسياسية في تل أبيب وأبوظبي والرياض، بينما يُمنح البعد الرمزي للقدس.
في هذا الإطار يُعاد تعريف الإسلام والمسيحية كفروع من الدين الإبراهيمي، ويُمنح اليهودي موقع الأصل والريادة.
خاتمة
إن العلاقة بين 'اتفاق إبراهيم” و'مسار إبراهيم” هي علاقة تناقضٍ في الشكل، وخداعٍ في الجوهر.
فالمشروع لا يهدف إلى صهر الأديان في وحدة إيمانية، بل إلى تسطيح العقائد وخلق وعي إقليمي جديد يجعل من إسرائيل مركزًا روحانيًا واقتصاديًا للشرق الأوسط.
بهذا المعنى، تُخفي الفلسفة الإبراهيمية مشروعًا مزدوجًا: واجهة سلام ناعمٍ تدعو إلى التعايش، وباطنٌ استراتيجي يعيد إنتاج التفوق التلمودي في قالبٍ ثقافي حديث.
إنه بحقّ خداع إبداعي يخلط بين الروحانية والسياسة، وبين التعايش والهيمنة، ليصنع شرقًا إبراهيميًا جديدًا تُدار هويته من خارج تاريخه.












































