اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ٨ تشرين الأول ٢٠٢٥
عامانِ على طوفانِ الأقصى شكّلا مشهدًا جديدًا للمِنطَقة.
أزهر الطوالبة
لم يكن طوفان الأقصى مجرّدَ هجومٍ عسكريّ نفّذته حركة حماس في السابع من أكتوبر 2023، بل تحوّلًا استراتيجيًّا عميقًا في مسار الصراع الفلسطينيّ الإسرائيليّ، أعاد ترتيب أولويات الإقليم وملامح النظام الدوليّ في الشرق الأوسط. وبين ما أفرزه من مكتسبات وما حمّله من أعباء، تقف المنطقة اليوم أمام مشهدٍ جديدٍ، تتداخل فيه الحسابات الأمنيّة بالتحوّلاتِ السياسيّة، في معادلةٍ معقّدةٍ يصعُب اختزالها بالانتصار أو الهزيمة.
لقد أظهرَ الطوفان هشاشة المنظومة الأمنيّة الإسرائيلية، وأسقط فرضيّة 'التحكّم الكامل' التي لطالما تباهت بها تل أبيب. فالاختراقُ الواسع للحُدود والسيطرةُ المؤقّتة على مستوطناتٍ ومواقعٍ عسكريةّ، وجّهت ضربةً قاسية لعقيدة الجيش الإسرائيليّ، وأفقدته ثقة جُمهوره، لتبدأ من بعده أزمة داخليّة عميقة ما تزال تتفاعل في البنية السياسية والعسكرية الإسرائيلية حتى اليوم.
وفي سياقٍ أوسع، أعاد الحدث القضيّة الفلسطينية إلى مركز الاهتمام الدوليّ بعد سنواتٍ من التهميش والانشغال بمشاريع التطبيع. فقد فرض نفسه على جدول العالم، وأحرجَ الحكومات الغربيّة أمامَ رأيها العام، وأعاد تعريف الصراع بوصفه قضيةَ احتلالٍ واستعمارٍ لا نزاعًا أمنيًا محدودًا. بهذا المعنى، نقل الطوفان النقاش من إطارِ 'حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها' إلى سؤالٍ أكثر جوهريّة: هل يمكن لأمّةٍ تحت الاحتلال أن تبقى صامتة؟
كما أربك المشهد العربيّ الرسميّ الذي كان يتهيّأ لتكريس مشروع التطبيع مع إسرائيل، خصوصًا في مسارٍ كانت واشنطن ترعاه مع الرياض. فجاءت العملية لتؤجّلَ هذا المسار، وتدفع العواصم العربيّة إلى مُراجعة حساباتها، وتُعيد طرح السؤال حول معنى التطبيع في ظلّ استمرار الاحتلال والجرائم ضدّ المدنيّين. في الوقت نفسه، كشفت ردود الفعل الغربيّة عن ازدواجيّةٍ صارخةٍ في المعايير، إذ تهاوى الخطاب الليبراليّ الذي يرفع شعارات حقوق الإنسان أمام الدعم العلنيّ لحرب الإبادة في غزة. هذه المفارقة أضعفت الشرعيّة الأخلاقية للغرب، ودَفعت قطاعاتٍ واسعة من الرأي العام العالميّ إلى مُراجعة مواقفها تجاه إسرائيل والاحتلال.
لكن، هذه الإنجازات الرمزيّة والميدانية لم تكن بلا ثمن. فقد جاء الردّ الإسرائيليّ مدمّرًا إلى حدٍّ غير مسبوق. فغرقت غزة في كارثةٍ إنسانيةٍ شاملة. ومع أنّ المسؤوليّة القانونية تقع على الاحتلال، فإنّ العمليّة فتحت الباب لتساؤلاتٍ داخليّةٍ حول مدى تقدير قيادة المُقاومة لحجم الردّ المتوقَّع، وحول غياب الرؤية السياسية المواكبة للإنجاز العسكريّ. بقيت المُقاومة تواجه وحدها الميدان، فيما ظلّ الموقف العربيّ الرسميّ عاجزًا عن تحويل التعاطف الشعبيّ إلى فعلٍ سياسيّ أو دبلوماسيّ مؤثّر، مما جعل 'الطوفان' إنجازًا فلسطينيًّا خالصًا بلا ظهيرٍ إقليميّ قادرٍ على تحويله إلى مكسبٍ استراتيجيّ.
أما على الصعيد الدوليّ، فقد استغلّت الولايات المتحدة الحدث لتبرير عودتها العسكريّة الكثيفة إلى المنطقة، ونشر حاملات الطائرات في شرقِ المتوسِّط، سعيًا لإعادة ضبط الإيقاع الإقليميّ وردع محور المقاومة. وهكذا تحوّل الطوفان إلى مدخلٍ لإعادة ترتيب موازين القوى في الشرق الأوسط، لا بين إسرائيل والفصائل فحسب، بل بين واشنطن وطهران أيضًا. وفي ظلّ هذا التعقيد، بقي الحصار قائمًا، والصمود الميدانيّ للمُقاومة لم يُترجم حتى الآن إلى مكاسب سياسيّةٍ ملموسة، -هذا إن استثنينا مسألة الاعتِراف الدوليّ ب'دولة فلسطين'، الّذي لنا تحفُّظ عليه، ولا سعةَ لذكرِ ذلكَ هُما-. فلا ضماناتٍ دوليّة رادعة، ولا أفقٍ 'واضِح' لإعادة الإعمار، لتبدو غزة أمام واقعٍ كارثيّ يتكرّس بلا أفقٍ سياسيّ جامع.
إنّ طوفان الأقصى، بما حمله من شجاعةٍ ميدانيةٍ وتحولٍ رمزيّ عظيم، شكّل لحظةً مفصليةً في تاريخ الصراع، لكنّه، في الوقت ذاته، كشف حدود العمل العسكريّ في غياب مشروعٍ سياسيّ واضحٍ ومُتماسِك. فالمُعادلة اليوم لم تعُد بين مقاومةٍ واحتلالٍ فحسب، بل بين منطقين مُتصادمين: منطقٍ يسعى لتحرير الأرض بالعُنف الثوريّ، ومنطقٍ دوليّ يسعى لإدارة الصراع لا لإنهائه.
ومهما اختلفت التقييمات، فإنّ الحقيقة التي رسّخها الطوفان تبقى ثابتة: لا سلام قسريًّا يصنع استقرارًا، ولا نظامًا إقليميًّا يُكتَب له الدوام إن تجاهلَ جوهر القضية الفلسطينية. فذلك الحدث، مهما كان داميًا، أعاد التذكير بأنّ فلسطين ما زالت حيّة، وأنّ الشرق الأوسط لن يُعاد تشكيله بمعزلٍ عنها.