اخبار الاردن
موقع كل يوم -وكالة مدار الساعة الإخبارية
نشر بتاريخ: ٢٣ أيار ٢٠٢٥
في أحيانٍ لا نملك فيها سوى أن نُسلّم خطانا لما لا نعرف، تمضي بنا الأقدار إلى حيث لا نخطط، وتضعنا في لحظة لم ننتظرها، لنفهم – متأخرين – أن الرحلة لم تكن لأجلنا وحدنا، وأننا كنا على موعد مع معنى أكبر منّا. في مطار إسطنبول، البارحة، كنت عائدًا من أوزبكستان، منهك الجسد، مثقل الرأس، أنتظر رحلة العودة إلى عمّان. الزمن يمضي ببطء، والنعاس يراودني كأنه خلاص، فقررت أن أستأجر كبينة نوم وأستسلم لبعض الراحة. لكن خطوتي توقفت فجأة بصوت مألوف… صديق أردني تصادف وجوده هناك، فذهبت معه نجلس في أحد المقاهي، وما إن استقرت أجسادنا حتى رفض المكان قلوبنا، فانتقلنا إلى مقهى آخر… دون أن ندرك أننا نتحرك بإيعاز من يدٍ خفية كانت ترسم طريقًا نحو حكاية إنسانية نادرة.حوالي الساعة الثانية عشرة ظهرًا، اقتربت من طاولتنا ثلاث سيدات مسنّات، وجوههن شاحبة، خطواتهن متثاقلة، يتحدثن بلغة لم أفقه منها شيئًا. بدا عليهن التعب، والضياع، والعطش. استعنت بسماعات الترجمة الفورية التي تعمل بالذكاء الاصطناعي، فعلمت أنهن من بنغلادش، بلا طعام، بلا ماء، وبلا مال حتى لشراء ما يسد الرمق.همس صديقي قائلاً: 'فكّك منهن'، لكن صوتًا في داخلي قال لي بوضوح: 'اقترب'. قلت له بهدوء: 'خلينا نسمع قصتهم'، ثم غادر لشراء بعض الأغراض، وبقيت أنا معهن.اثنتان بالكاد تقفان على أرجلهما، يعلو وجهيما الخوف بل الرعب، كأن العالم كله انكمش حولهما. راجعت جوازات السيدات الثلاث وتذاكرهن، فإذا بهن يحملن بطاقة الإقامة الدائمة في أمريكا، وهن في طريقهن إلى ديترويت، حيث يقيم ابن إحداهن، مواطن أمريكي. لكنهن كنّ في حالة شتات تام، كأنهن قذفتهن الأيام في منتصف عالم لا يفهمهن ولا يفهمنه.إحداهن كانت تمسك بكيس قماشي، احتوى على بقايا خبز ناشف، وأعشاب جافة، وفتات جبن. أخذت ما معهن، وذهبت أشتري لهن طعامًا وماء. وفي تلك اللحظة، شعرت بشيء يتجاوز الشفقة… شعرت أنني مسؤول، مسؤول عن وجوه غريبة، عن أرواح لا أعرفها، وكأنني كنت هناك من أجل هذا فقط.أخبرتني الأصغر سنًا بينهن أن زوجها مفقود في المطار، مريض ومتعب، ولا تعرف له أثرًا. عرضت لي صورته، فطلبت منهن البقاء في أماكنهن، وانطلقت أبحث عنه وسط الزحام. نصف ساعة من البحث، حتى وجدته… رجل مسنّ، جالسٌ قرب أحد الحمامات، لا يقوى على المشي، شاحب الوجه كأنه خارج للتو من معركة طويلة مع الحياة.جلست عنده، وكتبت له على مترجم غوغل: من أنا، ولماذا أتيت. ثم أحضرت كرسيًا كهربائيًا، ونقلته إلى حيث ينتظرنه، وهناك… التمّ الشمل، وعاد الدفء إلى العيون المرتبكة.استأجرت عربة كهربائية صغيرة، وحملتهم جميعًا إلى بوابتهم D9. ساعدتهم في إجراءات السفر، تأكدت أن كل شيء على ما يرام. وقبل أن أغادر، أعطيت الرجل بطاقتي وبعض المال، وقلت له: “أعطها لابنك، فقط ليطمئنني أنكم وصلتم بخير.”افترقنا بدموعهم، وبشعور لا يمكن وصفه... شعور يقول لك إنك كنت الإجابة التي أرسلها الله لهم في الوقت الذي كان فيه كل شيء يتهاوى.وقبل ساعات... رن الهاتف. كان ابنهم يتصل من أمريكا، يشكر، ويدعو، ويخبرني أنهم وصلوا.في ذلك اليوم، فهمت أن بعض الرحلات لا تُقاس بعدد الكيلومترات، بل بعدد الأرواح التي نلمسها. وأن الرحمة لا تسأل عن دين ولا عن لون، ولا تنتظر مقابلاً. في بعض الأوقات، لا تأخذك الحياة إلى مكان عبثًا… بل ترسلك، لتكون إنسانًا حيث لا يوجد سواك... لم أسأل عن دينهم، ولم أفتّش في معتقدهم. الرحمة لا تحتاج هوية، ولا الإحسان يستأذن قبل أن يطرق قلبك.نُبعث أحيانًا دون أن نعلم، لتكون الكلمة التي تُقال، واليد التي تُمد، والرحمة التي تُحسّ… فقط لأن القدر ارادك هناك تحديدا !تختارك الاقدار لتكون يد الرحمة لآخرين، لا نعرفهم ولا يعرفوننا، لكننا نُبعث إليهم، حين يتعطل كل شيء، ليكون الإنسانهوالإجابة!
في أحيانٍ لا نملك فيها سوى أن نُسلّم خطانا لما لا نعرف، تمضي بنا الأقدار إلى حيث لا نخطط، وتضعنا في لحظة لم ننتظرها، لنفهم – متأخرين – أن الرحلة لم تكن لأجلنا وحدنا، وأننا كنا على موعد مع معنى أكبر منّا.
في مطار إسطنبول، البارحة، كنت عائدًا من أوزبكستان، منهك الجسد، مثقل الرأس، أنتظر رحلة العودة إلى عمّان. الزمن يمضي ببطء، والنعاس يراودني كأنه خلاص، فقررت أن أستأجر كبينة نوم وأستسلم لبعض الراحة. لكن خطوتي توقفت فجأة بصوت مألوف… صديق أردني تصادف وجوده هناك، فذهبت معه نجلس في أحد المقاهي، وما إن استقرت أجسادنا حتى رفض المكان قلوبنا، فانتقلنا إلى مقهى آخر… دون أن ندرك أننا نتحرك بإيعاز من يدٍ خفية كانت ترسم طريقًا نحو حكاية إنسانية نادرة.
حوالي الساعة الثانية عشرة ظهرًا، اقتربت من طاولتنا ثلاث سيدات مسنّات، وجوههن شاحبة، خطواتهن متثاقلة، يتحدثن بلغة لم أفقه منها شيئًا. بدا عليهن التعب، والضياع، والعطش. استعنت بسماعات الترجمة الفورية التي تعمل بالذكاء الاصطناعي، فعلمت أنهن من بنغلادش، بلا طعام، بلا ماء، وبلا مال حتى لشراء ما يسد الرمق.
همس صديقي قائلاً: 'فكّك منهن'، لكن صوتًا في داخلي قال لي بوضوح: 'اقترب'. قلت له بهدوء: 'خلينا نسمع قصتهم'، ثم غادر لشراء بعض الأغراض، وبقيت أنا معهن.
اثنتان بالكاد تقفان على أرجلهما، يعلو وجهيما الخوف بل الرعب، كأن العالم كله انكمش حولهما. راجعت جوازات السيدات الثلاث وتذاكرهن، فإذا بهن يحملن بطاقة الإقامة الدائمة في أمريكا، وهن في طريقهن إلى ديترويت، حيث يقيم ابن إحداهن، مواطن أمريكي. لكنهن كنّ في حالة شتات تام، كأنهن قذفتهن الأيام في منتصف عالم لا يفهمهن ولا يفهمنه.
إحداهن كانت تمسك بكيس قماشي، احتوى على بقايا خبز ناشف، وأعشاب جافة، وفتات جبن. أخذت ما معهن، وذهبت أشتري لهن طعامًا وماء. وفي تلك اللحظة، شعرت بشيء يتجاوز الشفقة… شعرت أنني مسؤول، مسؤول عن وجوه غريبة، عن أرواح لا أعرفها، وكأنني كنت هناك من أجل هذا فقط.
أخبرتني الأصغر سنًا بينهن أن زوجها مفقود في المطار، مريض ومتعب، ولا تعرف له أثرًا. عرضت لي صورته، فطلبت منهن البقاء في أماكنهن، وانطلقت أبحث عنه وسط الزحام. نصف ساعة من البحث، حتى وجدته… رجل مسنّ، جالسٌ قرب أحد الحمامات، لا يقوى على المشي، شاحب الوجه كأنه خارج للتو من معركة طويلة مع الحياة.
جلست عنده، وكتبت له على مترجم غوغل: من أنا، ولماذا أتيت. ثم أحضرت كرسيًا كهربائيًا، ونقلته إلى حيث ينتظرنه، وهناك… التمّ الشمل، وعاد الدفء إلى العيون المرتبكة.
استأجرت عربة كهربائية صغيرة، وحملتهم جميعًا إلى بوابتهم D9. ساعدتهم في إجراءات السفر، تأكدت أن كل شيء على ما يرام. وقبل أن أغادر، أعطيت الرجل بطاقتي وبعض المال، وقلت له: “أعطها لابنك، فقط ليطمئنني أنكم وصلتم بخير.”
افترقنا بدموعهم، وبشعور لا يمكن وصفه... شعور يقول لك إنك كنت الإجابة التي أرسلها الله لهم في الوقت الذي كان فيه كل شيء يتهاوى.
وقبل ساعات... رن الهاتف. كان ابنهم يتصل من أمريكا، يشكر، ويدعو، ويخبرني أنهم وصلوا.
في ذلك اليوم، فهمت أن بعض الرحلات لا تُقاس بعدد الكيلومترات، بل بعدد الأرواح التي نلمسها. وأن الرحمة لا تسأل عن دين ولا عن لون، ولا تنتظر مقابلاً. في بعض الأوقات، لا تأخذك الحياة إلى مكان عبثًا… بل ترسلك، لتكون إنسانًا حيث لا يوجد سواك... لم أسأل عن دينهم، ولم أفتّش في معتقدهم. الرحمة لا تحتاج هوية، ولا الإحسان يستأذن قبل أن يطرق قلبك.
نُبعث أحيانًا دون أن نعلم، لتكون الكلمة التي تُقال، واليد التي تُمد، والرحمة التي تُحسّ… فقط لأن القدر ارادك هناك تحديدا !
تختارك الاقدار لتكون يد الرحمة لآخرين، لا نعرفهم ولا يعرفوننا، لكننا نُبعث إليهم، حين يتعطل كل شيء، ليكون الإنسانهوالإجابة!