اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ١٣ تموز ٢٠٢٥
مشكلة الاقتصاد الأردني إدارية لا مالية: قراءة في الجذور والارتدادات #عاجل
كتب الدكتور ابراهيم النقرش -
لا يخفى على أحد أن الاقتصاد الأردني يعيش واحدة من أعمق أزماته في تاريخه الحديث؛ أزمة لا تعود جذورها إلى نقص الموارد أو غياب المال، بل إلى غياب الكفاءة في إدارتهما. فالأردن، رغم محدودية موارده الطبيعية، لم يكن يومًا معدمًا؛ دخلت إليه مليارات من المساعدات العربية والدولية، وتدفقت عليه عوائد الضرائب والفوسفات والبوتاس، ومع ذلك، لم تنعكس هذه الأموال على حياة المواطن ولا على بنية الاقتصاد الوطني. فالمشكلة لم تكن في المال، بل في من يدير المال، وفي الطريقة التي يُدار بها.
تُدار الموارد في الأردن بعقلية عاجزة عن مواكبة مرونةالعصر، وبتخطيط يفتقر للرؤية بعيدة المدى، وتنفيذ يُسخّر غالبًا لخدمة الأجندات الشخصية لا الصالح العام. غابت الإدارة الرشيدة، وحلّ مكانها أسلوب الارتجال، وغياب المساءلة، وإعادة تدوير الوجوه ذاتها التي أثبتت فشلها لعقود، في مشهد لا يُعبر عن نقص الكفاءات، بل عن سطوة الشللية والمحسوبية. فحين يُقصى الكفء لصالح القريب أو التابع، فلا عجب أن تُهدر الأموال وتفشل المشاريع، ويتحول الاقتصاد إلى عبء ثقيل على المواطن.
وإذا كانت الإدارة السيئة قد أصابت الاقتصاد بالشلل، فإن الفساد كان كالسرطان الذي نخر عظام الدولة. الفساد في الأردن ليس استثناءً، بل قاعدة تغلغلت في المؤسسات، وأصبحت جزءًا من بنية اتخاذ القرار. عقود من المحاباة والفساد المنظم للمال العام، وعشرات المشاريع الفاشلة التي صُممت لتُنهب لا لتُنتج، خلّفت اقتصادًا هشًا، ومجتمعًا منهكًا. يتكرر المشهد ذاته كل مرة: تُمنح العقود لمستفيدين بعينهم، تُمرر الصفقات عبر نوافذ ضيقة، وتُهدر الأموال التي لو أُحسن استغلالها، لتحولت إلى تنمية حقيقية.
ووسط هذا كله، يستمر الدين العام في التصاعد حتى تجاوز حاجز الـ60 مليار دولار، أي ما يعادل أكثر من 115% من الناتج المحلي. والمأساة لا تكمن في الرقم وحده، بل في أن هذه القروض لم تُستثمر في بنية إنتاجية، بل وُجهت لتغطية رواتب ومصاريف تشغيلية وفوائد ديون سابقة، مما وضع الدولة في دائرة مغلقة من الاقتراض لتسديد فوائد الاقتراض. ولمواجهة هذا العجز المزمن، لم تجد الدولة وسيلة إلا تحميل المواطن مزيدًا من الضرائب والرسوم، في وقت لم يعد فيه المواطن قادرًا على تأمين أبسط ضروريات الحياة. المواطن بات يُعامل كمصدر دخل لخزينة عاجزة، لا كإنسان يستحق حياة كريمة.
وما إن يُصبح المواطن هو الحلقة الأضعف في معادلة الاقتصاد، حتى تبدأ الارتدادات الاجتماعية بالظهور. بطالة مرتفعة، خاصة بين الشباب، وشهادات جامعية تذروها الرياح، وهجرة متزايدة للعقول والأيدي العاملة بحثًا عن وطن بديل يوفر ما عجز وطنهم عن تأمينه. والبطالة لم تعد مشكلة رقمية فقط، بل تحولت إلى حالة نفسية جماعية من الإحباط، والشعور باللاجدوى، واليأس من الإصلاح. الشاب الأردني اليوم، لا يبحث عن الرفاه، بل عن فرصة للبقاء بكرامة.
وفي هذا المناخ القاتم، يُمعن الخطاب الرسمي في الغياب عن الواقع. يُطلّ المسؤول بتصريح مفصول عن حياة الناس، ليحدثهم عن نمو اقتصادي، وعن خطط مستقبلية واعدة، وكأن الأردنيين لا يعيشون في الوطن ما يعيشونه من غلاء وحرمان. هذه الفجوة بين الدولة ومواطنيها لم تعد تُقاس بالكلام، بل بالشعور العميق بأن الدولة تخلّت عن دورها، أو في أحسن الأحوال، لم تعد قادرة على أدائه. الصدق غائب، والمكاشفة ممنوعة، والشفافية في أدنى مستوياتها، في وقت أصبح فيه الناس بحاجة إلى الحقيقة أكثر من أي وقت مضى.
ولأن الكارثة لا تأتي فرادى، فإن تآكل العدالة الاجتماعية بات ملموسًا، حيث تُحتكر الفرص من قبل طبقة صغيرة تستأثر بكل شيء، بينما يُترك الباقون في العراء. اختفت الطبقة الوسطى تقريبًا، واتسعت الهوة بين من يملكون ومن لا يملكون، لا نتيجة لتفاوت طبيعي في الجهد، بل بسبب نظام اداري يُكافئ الولاء لا الإنجاز. هذه الفجوة الطبقية، حين تتعمق، لا تُهدد الاقتصاد فقط، بل الاستقرار السياسي والاجتماعي برمّته.
أما البنية التحتية، التي كان يفترض أن تكون المظهر الملموس لأي تنمية، فقد أصبحت شاهدة على غياب الرؤية. شوارع متهالكة، مدارس مكتظة، مستشفيات تعاني نقص الكوادر والمعدات، كلها تُبنى بتمويل خارجي، وكأن الدولة غير قادرة حتى على بناء مدرسة أو إصلاح طريق. الإدارة المحلية فاشلة، إما لأنها مسيّسة أو لأنها فاسدة، والمواطن في الأطراف يشعر أنه مواطن مهمش في وطنه.
وإذا كان هذا هو الحال اقتصاديًا واجتماعيًا، فإن الارتدادات السياسية لا بد أن تطرق الأبواب. تآكل الثقة بالمؤسسات، غياب المشاركة السياسية الفاعلة، توسع الفجوة بين الشعب والمسؤل، كلها مقدمات لمشهد لا يتمنى أحد أن يراه. المواطن الذي يفقد ثقته بالدولة، ويشعر بأن حقوقه مسلوبة، لن يبقى ساكنًا إلى الأبد. فكل صمت طويل يُولد انفجارًا.
من هنا، فإن إنقاذ الاقتصاد الأردني لا يكون بتغيير وزير أو تعيين باشا أو إطلاق شعار، بل بإصلاح جذري وشامل يبدأ من الإدارة. يجب أن تعود الكفاءة إلى موقعها، ويُفصل القرار الاقتصادي عن الحسابات السياسية الضيقة، وتُحاسب شبكات الفساد بجدية لا بمجاملة. كما يجب وقف الاعتماد على الجباية والاقتراض، وتوجيه المال نحو الاستثمار الحقيقي الذي يُنتج ويُشغل، لا نحو الإنفاق الاستهلاكي الذي يُبدد. المطلوب اليوم إصلاح يُعيد الثقة، ويُعيد للناس إحساسهم بالعدالة، ويُشعرهم أن الوطن لهم لا عليهم.
الأردن لا تنقصه العقول ولا الموارد ولا الإرادة الملكية في التوجيه نحو الإصلاح، لكن ما ينقصه فعلًا هو إدارة جديدة، مختلفة، تؤمن بالوطن والمواطن، وتضعهما في مقدمة أولوياتها. فليس المطلوب اقتصادًا ينمو على الورق، بل اقتصادًا يُشبع الناس خبزًا وكرامة.