اخبار الاردن
موقع كل يوم -وكالة مدار الساعة الإخبارية
نشر بتاريخ: ١٣ أيار ٢٠٢٥
داخل أروقة القطاع العام في الأردن، نرى مشهدًا متكررًا: موظف ينتظر 'التوجيهات'، مدير يتجنب اتخاذ قرار حاسم، أو إدارة تؤجل التغيير تخوفًا من المساءلة. لا يناقش هذا بشكل مباشر، لكن الكل يعرف أنه جزء مما يُعرف محليًا بـ'خلي الأمور ماشية. وما نراه ليس فقط تراخيا أو ضعفا بل هو انعكاس لما يسمى'المعلق' ، بل تمثل حالة من الانتظار المستمر والجمود الإداري، حيث يتبادل الموظفون عبارات مثل: 'دعنا ننتظر لنرى ماذا سيصدر قرار'، أو 'لا يزال القرار غير محدد من الأعلى'، أو حتى 'الأمور غير واضحة، دعنا ننتظر الاجتماع التالي'. إنها ثقافة داخلية تتجنب تحمل المسؤولية، وتفضل الأمان على اتخاذ المبادرات، وتُرجع عملية اتخاذ القرار إلى جهات عليا - قد لا تظهر أبدًا.على الرغم من المحاولات المستمرة للإصلاح على مر السنين، لا يزال السلوك المؤسسي في القطاع العام الأردني يعاني من مقاومة التغيير، ونقص الحافز، والتشكيك المستمر في الاقتراحات المتعلقة بالتحسين. حيث لا يتأتى هذا السلوك من الأفراد فقط، بل يمثل تجسيدًا لبنى تنظيمية وثقافة مؤسسية تم ترسيخها بفعل غياب الشفافية والمساءلة، وتعزيز مفهوم 'السلامة الإدارية' على حساب الإنتاجية. أظهرت دراسة قامت بها جامعة البلقاء التطبيقية في عام 2023 حول ميول الموظفين تجاه التغيير، أن عددًا كبيرًا من العاملين في القطاع العام لا يرون قيمة حقيقية في التحديث الإداري، بل يعتبرونه تهديدًا لمناصبهم أو استقرارهم في العمل. كما تبين من خلال دراسة أجرتها الجامعة الأردنية أن غياب نظم الحوافز المادية والمعنوية، بالإضافة إلى ضعف مشاركة الأفراد في عملية اتخاذ القرار، له تأثير سلبي على الالتزام المهني والدافع نحو التطوير. هذه القضية لم تفلت من اهتمام المنظمات الدولية. في عام 2024، أصدرت منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية تقريرًا مفصلًا، أشارت فيه إلى أن الأردن يحتاج إلى 'تحول في نموذج الحوكمة'، للتحول من أسلوب إداري مركزي إلى إدارة تتمحور حول المشاركة والشفافية والكفاءة. وأكدت أنه لا يمكن الحفاظ على الإصلاح الإداري دون استثمار فعلي في الموارد البشرية، تعزيز الكفاءات القيادية المتوسطة، ومنح الموظفين الحرية للابتكار دون مخاوف من العقوبات.وفي تقرير منفصل، دعت المنظمة إلى تعزيز ثقافة النزاهة المؤسسية ودمجها في السلوك اليومي، ليست كإجراء رقابي فحسب، وإنما كبيئة تشجع الموظف على اتخاذ قرارات مسؤولة وتعزز الالتزام دون الحاجة إلى مراقبة مباشرة.عبر مشروع 'معًا'، وضع الاتحاد الأوروبي ومنظمة OECD خارطة طريق تهدف إلى تمكين الأردن من تحديث الإدارة العامة، مستندة إلى أربعة محاور رئيسية: تمكين الموارد البشرية، رقمنة الإجراءات، إشراك المواطنين، وتقييم الأداء بناءً على النتائج. وقد اعتمدت الحكومة هذا المشروع رسميًا من خلال وثيقة تطوير القطاع العام 2022-2025.كما قدمت الوكالة الفرنسية للتنمية دعمًا لهذه الاتجاهات عبر تمويل مباشر بلغ 150 مليون يورو، مع التأكيد على أهمية تبسيط العمليات وتقليل الإجراءات البيروقراطية وتطوير آليات المتابعة، مما يستلزم تغييرًا جوهريًا في الأنماط الإدارية وليس مجرد تعديل في الأنظمة.في سياق متصل، أشار البنك الدولي إلى أن نجاح الحكومة في الاستثمار في الموارد البشرية، وبالخصوص في مجالات التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية، يعد عنصرا أساسيا في نجاح إصلاحات القطاع العام. كما أكد على ضرورة أن يكون الأداء الحكومي قائماً على الكفاءة والمساءلة بدلاً من الاعتماد على عدد سنوات الخدمة أو القرب من مراكز اتخاذ القرار.تشترك هذه التوصيات والدراسات في ضرورة إعادة تقييم الثقافة التنظيمية السائدة، والتي تتجلى في النقاط التالية: مقاومة داخلية للتغيير رغم وضوح التحديات. نقص في أنظمة الحوافز المرتبطة بالإنجاز بدلاً من الحضور. غياب القيادة الفعالة التي تخلق بيئة تشجع على المبادرة بدلاً من معاقبتها. وجود فجوة بين الخطاب الرسمي حول 'التحديث' والواقع العملي في المؤسسات. إن الطريق نحو الإصلاح الحقيقي يعتمد على تغيير فلسفة الإدارة العامة، من إدارة تركز على السيطرة والتراتبية إلى إدارة تركز على التمكين والمساءلة والتحفيز. إن الإصلاح الإداري في الأردن ليس مجرد إعادة هيكلة أو تحديث لأنظمة إلكترونية، بل هو مشروع ثقافي في جوهره، يبدأ بالقيم التي تُزرع في الموظف العام، ويتعزز بالقيادات التي تؤمن بالتغيير وتطبق الشفافية على نفسها قبل أن تتوقعها من الآخرين. لقد حان الوقت لنتجاوز مفهوم 'هيك تعودنا او خلي الأمور ماشية'' كمعيار إداري، ونتخذ من ثقافة الفعل والإنجاز والجرأة المدروسة وسيلة للعمل. فالأردن يستحق مؤسسات عامة تتماشى مع طموحاته، ومواطنيه يستحقون خدمة عامة تعكس ثقتهم، وموظفوه يستحقون بيئة عمل تحفزهم بدلاً من الإحباط، وتكافئهم بدلاً من الإقصاء. فالادارة الحديثة لا تبنى على التردد بل على الجرة المحسوبة والقرار المسؤول.
داخل أروقة القطاع العام في الأردن، نرى مشهدًا متكررًا: موظف ينتظر 'التوجيهات'، مدير يتجنب اتخاذ قرار حاسم، أو إدارة تؤجل التغيير تخوفًا من المساءلة. لا يناقش هذا بشكل مباشر، لكن الكل يعرف أنه جزء مما يُعرف محليًا بـ'خلي الأمور ماشية. وما نراه ليس فقط تراخيا أو ضعفا بل هو انعكاس لما يسمى'المعلق' ، بل تمثل حالة من الانتظار المستمر والجمود الإداري، حيث يتبادل الموظفون عبارات مثل: 'دعنا ننتظر لنرى ماذا سيصدر قرار'، أو 'لا يزال القرار غير محدد من الأعلى'، أو حتى 'الأمور غير واضحة، دعنا ننتظر الاجتماع التالي'. إنها ثقافة داخلية تتجنب تحمل المسؤولية، وتفضل الأمان على اتخاذ المبادرات، وتُرجع عملية اتخاذ القرار إلى جهات عليا - قد لا تظهر أبدًا.على الرغم من المحاولات المستمرة للإصلاح على مر السنين، لا يزال السلوك المؤسسي في القطاع العام الأردني يعاني من مقاومة التغيير، ونقص الحافز، والتشكيك المستمر في الاقتراحات المتعلقة بالتحسين. حيث لا يتأتى هذا السلوك من الأفراد فقط، بل يمثل تجسيدًا لبنى تنظيمية وثقافة مؤسسية تم ترسيخها بفعل غياب الشفافية والمساءلة، وتعزيز مفهوم 'السلامة الإدارية' على حساب الإنتاجية.
أظهرت دراسة قامت بها جامعة البلقاء التطبيقية في عام 2023 حول ميول الموظفين تجاه التغيير، أن عددًا كبيرًا من العاملين في القطاع العام لا يرون قيمة حقيقية في التحديث الإداري، بل يعتبرونه تهديدًا لمناصبهم أو استقرارهم في العمل. كما تبين من خلال دراسة أجرتها الجامعة الأردنية أن غياب نظم الحوافز المادية والمعنوية، بالإضافة إلى ضعف مشاركة الأفراد في عملية اتخاذ القرار، له تأثير سلبي على الالتزام المهني والدافع نحو التطوير. هذه القضية لم تفلت من اهتمام المنظمات الدولية. في عام 2024، أصدرت منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية تقريرًا مفصلًا، أشارت فيه إلى أن الأردن يحتاج إلى 'تحول في نموذج الحوكمة'، للتحول من أسلوب إداري مركزي إلى إدارة تتمحور حول المشاركة والشفافية والكفاءة. وأكدت أنه لا يمكن الحفاظ على الإصلاح الإداري دون استثمار فعلي في الموارد البشرية، تعزيز الكفاءات القيادية المتوسطة، ومنح الموظفين الحرية للابتكار دون مخاوف من العقوبات.وفي تقرير منفصل، دعت المنظمة إلى تعزيز ثقافة النزاهة المؤسسية ودمجها في السلوك اليومي، ليست كإجراء رقابي فحسب، وإنما كبيئة تشجع الموظف على اتخاذ قرارات مسؤولة وتعزز الالتزام دون الحاجة إلى مراقبة مباشرة.عبر مشروع 'معًا'، وضع الاتحاد الأوروبي ومنظمة OECD خارطة طريق تهدف إلى تمكين الأردن من تحديث الإدارة العامة، مستندة إلى أربعة محاور رئيسية: تمكين الموارد البشرية، رقمنة الإجراءات، إشراك المواطنين، وتقييم الأداء بناءً على النتائج. وقد اعتمدت الحكومة هذا المشروع رسميًا من خلال وثيقة تطوير القطاع العام 2022-2025.
كما قدمت الوكالة الفرنسية للتنمية دعمًا لهذه الاتجاهات عبر تمويل مباشر بلغ 150 مليون يورو، مع التأكيد على أهمية تبسيط العمليات وتقليل الإجراءات البيروقراطية وتطوير آليات المتابعة، مما يستلزم تغييرًا جوهريًا في الأنماط الإدارية وليس مجرد تعديل في الأنظمة.في سياق متصل، أشار البنك الدولي إلى أن نجاح الحكومة في الاستثمار في الموارد البشرية، وبالخصوص في مجالات التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية، يعد عنصرا أساسيا في نجاح إصلاحات القطاع العام. كما أكد على ضرورة أن يكون الأداء الحكومي قائماً على الكفاءة والمساءلة بدلاً من الاعتماد على عدد سنوات الخدمة أو القرب من مراكز اتخاذ القرار.تشترك هذه التوصيات والدراسات في ضرورة إعادة تقييم الثقافة التنظيمية السائدة، والتي تتجلى في النقاط التالية: مقاومة داخلية للتغيير رغم وضوح التحديات. نقص في أنظمة الحوافز المرتبطة بالإنجاز بدلاً من الحضور.
غياب القيادة الفعالة التي تخلق بيئة تشجع على المبادرة بدلاً من معاقبتها. وجود فجوة بين الخطاب الرسمي حول 'التحديث' والواقع العملي في المؤسسات. إن الطريق نحو الإصلاح الحقيقي يعتمد على تغيير فلسفة الإدارة العامة، من إدارة تركز على السيطرة والتراتبية إلى إدارة تركز على التمكين والمساءلة والتحفيز. إن الإصلاح الإداري في الأردن ليس مجرد إعادة هيكلة أو تحديث لأنظمة إلكترونية، بل هو مشروع ثقافي في جوهره، يبدأ بالقيم التي تُزرع في الموظف العام، ويتعزز بالقيادات التي تؤمن بالتغيير وتطبق الشفافية على نفسها قبل أن تتوقعها من الآخرين. لقد حان الوقت لنتجاوز مفهوم 'هيك تعودنا او خلي الأمور ماشية'' كمعيار إداري، ونتخذ من ثقافة الفعل والإنجاز والجرأة المدروسة وسيلة للعمل. فالأردن يستحق مؤسسات عامة تتماشى مع طموحاته، ومواطنيه يستحقون خدمة عامة تعكس ثقتهم، وموظفوه يستحقون بيئة عمل تحفزهم بدلاً من الإحباط، وتكافئهم بدلاً من الإقصاء. فالادارة الحديثة لا تبنى على التردد بل على الجرة المحسوبة والقرار المسؤول.