اخبار الاردن
موقع كل يوم -وكالة رم للأنباء
نشر بتاريخ: ١٣ تموز ٢٠٢٥
رم - د. هيثم علي حجازي
شهدت العقود الأخيرة تصاعدا ملحوظا في توجه الباحثين العرب إلى نشر أبحاثهم في المجلات العلمية الأجنبية ذات التصنيف العالي، مدفوعين برغبة في تحقيق الاعتراف الأكاديمي الدولي وزيادة فرص الترقي المهني. ورغم ما لهذا التوجه من مزايا، فإنه يحمل في طياته عددا من الإشكاليات التي تمسّ الواقع العلمي والثقافي العربي. يتناول هذا المقال أبرز المساوئ الناجمة عن هذا الاندفاع غير المتوازن، مع التأكيد على أهمية الموازنة بين الانفتاح العلمي العالمي وتعزيز المنظومة البحثية العربية. ومن المساوئ ذات العلاقة:
أولًا: إضعاف المجلات العلمية العربية: أدى تفضيل الباحثين للمجلات الأجنبية إلى تراجع نسبي في جودة ومكانة المجلات العربية، إذ باتت تعاني من ضعف في المحتوى البحثي وانخفاض في معدلات الاستشهاد. وينعكس هذا التراجع سلبا على تطور اللغة العربية كلغة علمية ويحدّ من قدرتها على مواكبة التقدم المعرفي العالمي. كما أن ضعف الإسهام العربي في هذه المجلات يقلّص من إمكانيات تطويرها كمؤسسات علمية قادرة على التقييم والنقد والمراجعة المستقلة.
ثانيًا: القصور في معالجة القضايا المحلية: غالبا ما تركّز المجلات الأجنبية على موضوعات ذات طابع عالمي أو تلك التي تهمّ الجمهور الأكاديمي الغربي، مما يدفع الباحث العربي إلى تكييف موضوعاته ومنهجيته بما يتماشى مع اهتمامات تلك المجلات. وقد يؤدي هذا التكيف إلى تهميش القضايا المحلية أو معالجتها من منظور خارجي، مما يضعف الدور التنويري للبحث العلمي في خدمة مجتمعاته الأصلية.
ثالثًا: تعزيز التبعية المعرفية: إنّ الاعتماد المفرط على المجلات الأجنبية كمصدر وحيد للشرعية الأكاديمية يعمّق من التبعية المعرفية ويقوّض سيادة المجتمعات العلمية العربية على إنتاجها المعرفي. كما أن الاحتكام لمعايير النشر الغربية دون مراجعة نقدية قد يؤدي إلى إخضاع الإنتاج العلمي العربي لمقاييس لا تعكس خصوصياته الثقافية واللغوية.
رابعًا: التحديات اللغوية والمعرفية: يتطلب النشر في المجلات الأجنبية الكتابة بلغة أجنبية، وهو ما يشكّل عائقا أمام شريحة واسعة من الباحثين الذين قد يتمتعون بكفاءة بحثية عالية لكنهم يفتقرون إلى القدرة اللغوية المناسبة. كما أن ذلك يؤدي إلى تهميش اللغة العربية في المجال العلمي، مما يُضعف قدرتها على التعبير عن المفاهيم المعرفية الحديثة.
خامسًا: التكلفة المالية للنشر في المجلات الأجنبية: يشكّل العبء المالي أحد أبرز المساوئ المرتبطة بالنشر في المجلات العلمية الأجنبية، لاسيما تلك التي تعتمد نموذج النشر المفتوح (Open Access)إذ يُطلب من الباحث دفع رسوم نشر قد تتجاوز أحيانا آلاف الدولارات، الأمر الذي يُثقل كاهل الباحثين والمؤسسات الأكاديمية في الدول العربية، وبخاصة في ظل محدودية الدعم المالي المخصص للبحث العلمي. وغالبا ما يضطر الباحثون إلى تغطية هذه التكاليف من مصادرهم الشخصية أو التخلي عن النشر في مجلات ذات تصنيف عالٍ رغم جودة أبحاثهم، مما يكرّس فجوة معرفية بين الباحثين في الشمال والجنوب العالمي. كما أن هذه التكاليف قد تؤدي إلى انحراف بعض الباحثين نحو مجلات غير موثوقة أو 'مفترسة' تستغل رغبتهم في النشر السريع مقابل رسوم مرتفعة دون تقديم تحكيم علمي حقيقي، أو اضطرار الباحث الرئيسي لإشراك عدد من الباحثين معه مقابل مساهمات مادية منهم، ودون أن يكون لهؤلاء الباحثين أي جهد في أعداد البحث (Free Rider).
توصيات لمعالجة ظاهرة الاندفاع نحو النشر في المجلات الأجنبية
من أجل معالجة هذه الظاهرة، فإنه يوصى بما يلي:
1. تعزيز جودة المجلات العربية المحكّمة: من حيث ضرورة دعم المؤسسات العلمية والجامعات للمجلات العربية، من خلال تطوير معايير النشر والتحكيم، وتطبيق قواعد النزاهة الأكاديمية، بالإضافة الى إدراج المجلات العربية في قواعد البيانات العالمية مثل Scopus وWeb of Science لزيادة جاذبيتها لدى الباحثين.
2. ربط الترقية الأكاديمية بالنشر النوعي لا المكاني فقط: ويكون ذلك من خلال تعديل أنظمة الترقية العلمية لتأخذ بعين الاعتبار جودة البحث ومدى خدمته للواقع المحلي، وليس فقط مكان النشر أو معامل التأثير. يضاف الى ذلك اعتماد مبدأ 'الأثر العلمي والاجتماعي' للبحوث ضمن معايير التقييم الأكاديمي.
3. تشجيع النشر ثنائي اللغة: من خلال دعم المبادرات التي تشجّع النشر باللغة العربية مرفقا بملخصات أو نسخ مترجمة إلى لغات أجنبية (وخاصة الإنجليزية) لتعزيز الوصول المحلي والعالمي في آن واحد؛ مع ضرورة تمويل برامج للترجمة العلمية الأكاديمية من وإلى العربية.
4. تأسيس منصات نشر عربية مفتوحة الوصول (Open Access): وذلك عبر إنشاء منصات إلكترونية عربية ذات طابع إقليمي أو دولي تتيح النشر المجاني المفتوح وتضمن الوصول السهل للأبحاث العلمية.
5. تحفيز الباحثين على معالجة القضايا المحلية: ويكون ذلك من خلال دعم البحوث التي تركّز على المشكلات الاجتماعية والتنموية في السياق العربي، وربط التمويل البحثي بأولويات التنمية الوطنية.
6. بناء ثقافة علمية نقدية مستقلة بتشجيع المؤسسات الأكاديمية على تطوير رؤى بحثية مستقلة لا تستنسخ الأجندات الغربية، مع احترام المعايير العلمية العالمية. يضاف الى ذلك تنظيم ورش عمل ودورات تدريبية لتعزيز الوعي بأهمية التوازن في النشر العلمي.
7. تعزيز التعاون بين الجامعات العربية من خلال إنشاء شبكات تعاون بحثي وإصدار مجلات مشتركة بين الجامعات العربية لتعزيز تبادل المعرفة وتكامل الجهود.
8. توفير الحوافز للباحثين العرب للنشر المحلي بتخصيص مكافآت أو نقاط إضافية للباحثين الذين ينشرون في مجلات عربية ذات جودة عالية ومعترف بها.
خاتمة
لا جدال في أن النشر في المجلات الأجنبية الرصينة يشكّل وسيلة مهمة لتعزيز الحضور الأكاديمي العربي على الصعيد الدولي، إلا أن الاندفاع غير المتوازن نحو هذا الخيار يحمل تبعات سلبية على بنية البحث العلمي العربي. وبالتالي، فإن المطلوب هو تحقيق توازن واعٍ بين النشر العالمي والنشر المحلي، بحيث يتم دعم المجلات العربية وتطوير معاييرها وجودتها، إلى جانب تشجيع الباحثين على المساهمة الفاعلة في بناء منظومة علمية متجذرة في واقعهم اللغوي والثقافي، ومنفتحة في الوقت ذاته على آفاق التعاون الدولي.