اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ٢١ تشرين الأول ٢٠٢٥
إسرائيل إذ تُدار الآن من البيت الأبيض #عاجل
كتب زياد فرحان المجالي -
منذ اللحظة التي هبطت فيها طائرة نائب الرئيس الأمريكي جيلي فانس في مطار تل أبيب، بدا أن المشهد لا علاقة له بالبروتوكول الدبلوماسي ولا بالتحالف التقليدي بين واشنطن وتل أبيب. كانت الزيارة إعلانًا غير مكتوب بأن القرار الإسرائيلي لم يعد يُصاغ في القدس، وأن واشنطن، وتحديدًا البيت الأبيض في عهد دونالد ترامب، أصبحت هي مركز القيادة الفعلية للحرب والسلام في المنطقة.
فانس لم يأتِ وحيدًا، بل برفقة رجلين من دائرة النفوذ الأقرب إلى ترامب: جاريد كوشنر وستيف ويتكوف. ثلاثتهم يمثلون وجوه السياسة الجديدة لواشنطن: كوشنر يروّج لمشروع 'الأديان الإبراهيمية' بوجهٍ روحاني، وويتكوف يمثّل رأس المال الأمريكي المتداخل مع الاستثمارات الإسرائيلية، أما فانس فهو الذراع السياسية التي تُنفّذ ما يُخطط له في الكواليس. ومن هنا بدت الزيارة جزءًا من معادلةٍ أكبر من مجرد بحثٍ في هدنة أو اتفاق.
الرسالة التي نقلها فانس إلى نتنياهو كانت واضحة وصارمة: من حقكم الدفاع عن أنفسكم، لكن إشعال النار متى تشاؤون لم يعد قراركم. لقد أصبحت الحرب والهدنة معًا شأنًا أمريكيًا، والقرارات الكبرى تمر عبر واشنطن قبل أن تُعلن من تل أبيب. كل عملية عسكرية، وكل مبادرة سياسية، باتت تتطلب موافقة البيت الأبيض، الذي يمسك الآن بالخيوط جميعها، يحدد السقف، ويقرر الإيقاع، ويمنح الإذن بالحركة أو يمنعه.
نتنياهو، الذي اعتاد أن يتعامل مع الرؤساء الأمريكيين بندّيةٍ شكلية، بدا هذه المرة أكثر حذرًا. حاول أن يظهر بمظهر القائد المستقل، لكنه يدرك في قرارة نفسه أن هامش المناورة يضيق كل يوم، وأن استمرار الدعم الأمريكي، سياسيًا وعسكريًا، مشروط بالتزامه الكامل بخطط إدارة ترامب. لقد تحولت العلاقة من تحالف بين ندّين إلى وصاية سياسية واضحة: واشنطن هي القائد، وتل أبيب المنفّذ.
الولايات المتحدة لم تعد تنظر إلى الحرب في غزة باعتبارها مواجهةً إسرائيلية فحسب، بل باعتبارها أداة لإعادة تشكيل المشهد الإقليمي. ومن هنا جاءت زيارة فانس لتؤكد أن الملف لم يعد في يد الجيش الإسرائيلي وحده، بل في يد الإدارة الأمريكية التي تُدير التفاصيل من بعد آلاف الكيلومترات. البيت الأبيض أصبح غرفة العمليات الكبرى التي تُرسم فيها خرائط النار وحدود الهدوء.
وفي خلفية هذا التحرك الأمريكي، يعمل جاريد كوشنر على إحياء مشروعه القديم ــ الفريق الإبراهيمي ــ الذي يسعى لإعادة تسويق 'اتفاقات أبراهام” في نسختها الثانية، أو ما يُعرف في الدوائر السياسية بـ Abraham Accords 2.0. جوهر الفكرة هو نفسه: التطبيع السريع مقابل وعودٍ اقتصادية، لكن الغلاف تغيّر؛ صار المشروع يُقدَّم كحوارٍ بين الأديان، وكأنه مبادرة روحانية لا صفقة سياسية. كوشنر يدرك أن الرأي العام العربي لم يعد يقبل لغة 'السلام الاقتصادي'، فاختار طريقًا أكثر نعومة: سلام على أساس الإيمان المشترك، لا على أساس المصالح المتبادلة.
بهذا الشكل، تُغلف واشنطن مشروعها السياسي بثوبٍ دينيّ جديد. فبينما تمارس القوة الصلبة في الميدان، تبني جدارًا رمزيًا من الخطاب الديني لتمرير سياساتها. الهدف ليس التقريب بين الديانات، بل تطويع الوعي العربي لقبول إسرائيل كحقيقةٍ قائمة لا يمكن تجاوزها، بل كمكوّن 'روحي” من نسيج المنطقة. إنه التهجين بين اللاهوت والسياسة في خدمة الهيمنة.
الزيارة التي بدت في ظاهرها دبلوماسية كانت في حقيقتها نقطة تحوّل في ميزان القيادة. للمرة الأولى منذ قيام إسرائيل، لم تعد تل أبيب تحدد متى تبدأ الحرب أو متى تنتهي، بل تنتظر التعليمات الأمريكية. حتى داخل الكابينت الإسرائيلي، أصبح واضحًا أن القرارات العسكرية الكبرى لا تُتخذ دون التنسيق المباشر مع واشنطن. الجيش ينفّذ، والبيت الأبيض يُقرّر.
لكن فانس لم يأتِ فقط لإبلاغ نتنياهو بحدود الحركة، بل أيضًا لقياس مدى استعداد إسرائيل للالتزام بوقف إطلاق النار الطويل الذي تطمح إليه واشنطن لتثبيت معادلة 'الاستقرار مقابل الاستثمار”. فالإدارة الأمريكية ترى أن إعادة إعمار غزة هي مدخلها الذهبي لإعادة ترتيب المنطقة بأكملها، وأن الاقتصاد هو اللغة الوحيدة القادرة على تهدئة الميدان حين تعجز الدبلوماسية.
في المقابل، تدرك السعودية أنها الرقم الأصعب في هذه المعادلة. فالرياض، التي تمسك بخيوط التوازن العربي، لا تريد أن تظهر كمن ينضم إلى اتفاق سلامٍ بينما غزة تحت الركام. ولهذا، فإن واشنطن تبذل جهدًا لإقناعها بأن انخراطها في النسخة الجديدة من 'اتفاقات أبراهام' سيكون مشروطًا بتحسين الوضع الإنساني في غزة وضمان ترتيباتٍ سياسية تمنع عودة الحرب. لكن الحقيقة أن الهدف الأميركي أعمق: دمج إسرائيل في المنطقة عبر قنواتٍ عربية رسمية، وضمان بقاء النفوذ الأميركي في كل زاويةٍ من الشرق الأوسط.
وفي قلب هذه الحسابات، تبقى حماس الرقم الذي لا يمكن تجاوزه. فرغم الحصار والدمار، ما زالت الحركة تسيطر على الميدان وتفرض إيقاعها. لم تعد طرفًا صغيرًا في المعادلة بل عامل التوازن الذي يُربك كل مشاريع واشنطن وتل أبيب. كل صفقةٍ جديدة تمر عبر غزة، وكل هدنةٍ تُقاس بمدى قبول حماس أو رفضها، مما يجعلها 'العنصر الغائب الحاضر” في كل مفاوضةٍ سرية.
من هنا، تبدو زيارة فانس جزءًا من 'تفاهمٍ غير معلن” بين الولايات المتحدة وإسرائيل وبعض العواصم العربية حول اليوم التالي لغزة. النقاشات تدور حول إدارةٍ مدنية مؤقتة، ومراقبةٍ عربية دولية للمعابر، وتمويلٍ خليجي لإعادة الإعمار، وكل ذلك تحت إشرافٍ أميركي مباشر. لكن السؤال الذي لم يُجب عنه أحد: من يملك القرار على الأرض؟ الإجابة البسيطة: لا أحد سوى واشنطن.
على الجانب الإسرائيلي، لا يملك نتنياهو رفاهية الرفض. فالأزمة الداخلية تزداد تعقيدًا، والشارع الإسرائيلي يعيش حالة إنهاكٍ غير مسبوقة. آلاف الجنود بين قتيلٍ وجريح، الاقتصاد في تراجع، والمجتمع غارق في انقساماتٍ حادة. في مثل هذه البيئة، لا يستطيع أي زعيم أن يستمر دون غطاءٍ أميركي، ولا أن يغامر بقطع هذا الحبل الذي يبقيه واقفًا سياسيًا.
هكذا أصبحت إسرائيل تدار من البيت الأبيض، لا من مقر رئاسة الوزراء. واشنطن تُمسك بخيوط الحرب والهدنة، وتُحدد شكل العلاقات الإقليمية، وتُقرّر متى يُسمح لتل أبيب بالتحرك ومتى تُجمد قراراتها. في كل مرة يرفع فيها نتنياهو صوته، يكون قد تلقى قبلها إشارة من واشنطن تقول له إلى أي مدى يمكن أن يصرخ.
وإذا كانت الزيارة الأميركية قد بدت في ظاهرها محاولة لإحياء مشروع 'السلام”، فإن مضمونها الحقيقي هو إعادة تثبيت النفوذ الأميركي في المنطقة عبر السيطرة على إسرائيل نفسها. لم تعد تل أبيب حليفًا حرًّا، بل أداة تنفيذٍ سياسية وعسكرية. وبينما تتحدث واشنطن عن السلام، فهي تدير واقعًا من الهيمنة المعنونة بالدبلوماسية.
إنها مرحلة جديدة في تاريخ الصراع، تُدار فيها الحروب من العاصمة الأميركية وتُنفذ على الأرض بأيدٍ إسرائيلية. لم تعد واشنطن تُراقب إسرائيل، بل تُوجّهها، ولم تعد تمنح الغطاء فقط، بل تصنع القرار ذاته. وبينما يكتب البيت الأبيض خططه على الورق، تبقى غزة هي الصفحة التي تُختبر عليها تلك الخطط بالنار والدم.
الشرق الأوسط اليوم يعيش تحت إدارةٍ أميركية لا تخفي طموحها في أن تكون الحَكَم والمُشرّع معًا. وبهذا المعنى، فإن زيارة نائب الرئيس فانس لم تكن زيارة دعم، بل زيارة تحكّمٍ وتثبيت نفوذ. إسرائيل لم تعد تدير نفسها كما تشاء، بل كما يُراد لها أن تكون: أداة في مشروعٍ أميركي أكبر، يُرسم في البيت الأبيض ويُنفذ في الميدان الفلسطيني.












































