اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ٣١ أب ٢٠٢٥
جداول المدخلات والمخرجات: بوصلة النمو النوعي وفرص الشباب الأردني
د. عدلي قندح
في عالم تتسارع فيه التحولات الاقتصادية وتتفاقم تحديات البطالة، لم يعد التركيز على مؤشرات النمو الكلي كافيًا. فالتفاوت في الدخل وضعف استيعاب أسواق العمل يتطلبان فهماً أعمق لكيفية عمل الاقتصاد على المستوى القطاعي. هنا تبرز أهمية جداول المدخلات والمخرجات، التي طورها فاسيلي ليونتيف، باعتبارها خريطة دقيقة للروابط بين القطاعات الاقتصادية وكيفية تفاعلها لتشكيل النسيج الكلي.
هذه الجداول ليست مجرد بيانات إحصائية، بل أداة استراتيجية لصانعي القرار، تسمح بتحديد القطاعات القاطرة للنمو وتوجيه السياسات نحو تحقيق أهداف شاملة. في الأردن، حيث يشكل خلق قيمة مضافة وفرص عمل للشباب تحدياً محورياً، تصبح هذه الجداول بمثابة بوصلة تنموية تتيح بناء سياسات أكثر استنارة.
أداة لفهم الاقتصاد وتوجيه السياسات
تُجسد جداول المدخلات والمخرجات النظرية الاقتصادية الكلية والجزئية من خلال مصفوفتين: المدخلات الوسيطة والطلب النهائي. ومنهما يمكن حساب معاملات ليونتيف التي تبين كمية المدخلات اللازمة لإنتاج وحدة من المخرجات، وصولاً إلى المصفوفة العكسية التي تكشف الأثر الكلي لأي تغير في الطلب.
هذه الآلية تساعد على تقدير المضاعفات الاقتصادية (الإنتاج، الدخل، العمالة). فإذا كان مضاعف الإنتاج لقطاع ما يساوي 2، فإن كل وحدة طلب إضافي على منتجاته تولد وحدتين من الإنتاج الكلي. هذا التحليل ضروري لتصميم سياسات تستهدف النمو النوعي.
الجداول تكشف أيضاً مساهمة كل قطاع في القيمة المضافة وقدرته على توليد الوظائف. ففي الأردن، وحسب دراسات البنك المركزي ودائرة الاحصاءات العامة، قطاعات مثل الصحة والتعليم والخدمات الحكومية تُعد كثيفة العمالة (تتجاوز فيها الأجور 95% من القيمة المضافة)، ما يجعلها رافعة للتوظيف. بالمقابل، قطاع العقارات كثيف رأس المال (الأجور 7% فقط)، لكنه يحقق قيمة مضافة مرتفعة (86.1% من إنتاجه)، ما يستدعي تمييز السياسات بين القطاعات وفق أهدافها التنموية.
دروس من التجارب الدولية
تُظهر التجارب العالمية أن النمو الاقتصادي ليس هدفاً بذاته، بل وسيلة لتوليد فرص عمل لائقة وتقليل الفقر. وهنا تبرز ثلاث دروس أساسية:
استهداف النمو النوعي لا الكمي:
النمو في قطاعات كثيفة رأس المال لا يحل مشكلة البطالة. لذا تتجه السياسات الحديثة لدعم القطاعات ذات القيمة المضافة العالية والقدرة على استيعاب العمالة. في الأردن، تشير دراسات إلى أن الصناعات التحويلية والغذائية والكهرباء والمياه تولد مضاعفات تفوق دينارين لكل دينار مستثمر. تجارب مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة ركزت على الصناعات عالية القيمة مع الاستثمار في التعليم، بينما فيتنام جذبت استثمارات أجنبية في التصنيع كثيف العمالة، ما خفّض البطالة ورفع مستويات المعيشة.
تعزيز التشابكات القطاعية: الاقتصاد نظام متكامل لا مجرد مجموع قطاعات. لذلك، فإن دعم قطاع ما يجب أن يأخذ في الاعتبار أثره على بقية القطاعات. ألمانيا تُعد نموذجاً بارزاً عبر شبكات الشركات الصغيرة والمتوسطة التي تدعم الصناعات الكبرى. أما تشيلي فقد طورت سلاسل قيمة متكاملة في التعدين والزراعة لتعظيم القيمة المحلية.
الاستثمار في البيانات: لا قيمة لهذه الجداول ما لم تُحدّث بانتظام. الاقتصادات الديناميكية تحتاج لبيانات دقيقة ومحدثة تعكس الواقع. الولايات المتحدة واليابان مثالان بارزان في تخصيص موارد ضخمة للإحصاءات. كما أن ماليزيا استثمرت في بناء قدرات إحصائية قوية جعلتها قادرة على صياغة سياسات قائمة على الأدلة.
فرص الشباب الأردني
انطلاقاً من هذه الرؤية، يمكن للشباب الأردني أن يسهموا في تحقيق النمو النوعي عبر:
ريادة الأعمال في القطاعات الواعدة مثل التكنولوجيا، الطاقة المتجددة، الصناعات الإبداعية والخدمات اللوجستية.
تطوير المهارات المستقبلية في البرمجة، تحليل البيانات، الذكاء الاصطناعي، والطاقة الخضراء.
الاستفادة من التشابكات الاقتصادية بإنشاء مشاريع تخدم قطاعات متعددة في آن واحد.
التفكير العالمي والتوجه إلى الأسواق الإقليمية والدولية بدلاً من الاقتصار على السوق المحلي.
نحو مستقبل اقتصادي مزدهر
تُوفر جداول المدخلات والمخرجات للأردن خارطة طريق واضحة لنمو مستدام. فهي تمكّن من تحديد القطاعات الأكثر قدرة على خلق قيمة مضافة ووظائف نوعية. ولتحقيق ذلك، يجب تبني استراتيجية مزدوجة المحور تشمل:
الاستخدام المنهجي لهذه الجداول في جميع مراحل التخطيط الاقتصادي.
تصميم حزم سياسات متكاملة تدعم القطاعات المستهدفة وتعزز ترابطها مع باقي الاقتصاد.
الاستثمار في الابتكار وتطوير المهارات لرفع إنتاجية القطاعات كثيفة العمالة وزيادة قيمتها المضافة.
بهذا النهج يمكن للأردن أن يتجاوز التحديات الهيكلية، يخفف من بطالة الشباب، ويعزز رفاه المجتمع عبر نمو نوعي متكامل، يفتح آفاقاً واعدة أمام الأجيال القادمة.