اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ٩ أب ٢٠٢٥
ما بعد الـ99 في التوجيهي: لماذا يختفي معظم هؤلاء المتفوقين عن المشهد؟ #عاجل
كتب أ. د. هاني الضمور -
في كل موسم لإعلان نتائج الثانوية العامة في الأردن، تتكرر مظاهر الفرح وكأنها طقس وطني مقدّس. تتزين البيوت، وتُطلق الألعاب النارية، وتُطبع صور المتفوقين على اللافتات، فيما تمتلئ الشاشات بأسماء أولئك الذين نالوا أعلى المعدلات. خلف كل رقم مرتفع قصة طويلة من السهر، والكفاح، والتعب، وربما الدموع. لا شك أن هذا النجاح مستحق، ولا ينبغي إنكاره أو تبخيسه.
لكن، وبينما نحتفي بتلك اللحظة المضيئة، يبرز سؤال ملحّ يحتاج إلى شجاعة لطرحه: لماذا يختفي معظم هؤلاء المتفوقين عن المشهد بعد سنوات قليلة؟ لماذا لا نراهم في مواقع التأثير العلمي أو الريادة الاجتماعية أو الابتكار الاقتصادي؟ هل هي مجرد صدفة متكررة؟ أم أن هناك خللاً أعمق في الطريقة التي نُفهم بها التفوق ونبني بها توقعاتنا؟
الحقيقة أن أبناءنا وبناتنا الذين يحصدون معدلات 99% وأكثر ليسوا أقلّ ذكاءً من نظرائهم حول العالم، ولا تنقصهم الطاقة ولا الشغف. هم في الغالب طلاب جادّون، منضبطون، ولديهم إرادة قوية لتحقيق الأفضل. لكن المشكلة لا تكمن فيهم، بل في الإطار الذي يُقاس فيه هذا التفوق، وفي الأدوات التي نستخدمها لاكتشاف الإمكانات الحقيقية لكل طالب.
نحن نعيش في نظام تعليمي يجعل من الامتحان غاية، لا وسيلة. في هذا النظام، يُطلب من الطالب أن يحفظ أكبر قدر ممكن من المعلومات، وأن يكررها بدقة في ورقة الامتحان. يُكافأ على الانضباط والدقة، لا على السؤال أو الشك أو البحث. وهكذا، يُكَوَّن جيل كامل من 'الناجحين الأكاديميين” دون أن يُتاح لهم هامش كافٍ للتجريب، أو التعلّم من الخطأ، أو استكشاف الذات خارج دفاتر المقررات.
النتيجة؟ طالب حاصل على 99% لكنه لا يملك لغة ثانية بطلاقة. أو لا يجيد مهارات العرض والتواصل. أو لم يكتب مشروعًا بحثيًا واحدًا خارج حدود المقرر. وربما لم يُتح له أن يعمل في فريق، أو يقدّم حلًا لمشكلة مجتمعية حقيقية. كل ذلك لا ينتقص من قيمته، بل يكشف ببساطة أنه كان يسير ضمن نظام ضيّق الأفق، واسع الضغط، قليل الخيارات.
والأسوأ من هذا، أن المجتمع يشارك أحيانًا في تعزيز هذه النظرة المشوهة للتفوق. فنحن نُعلي من شأن الرقم، ونربطه بالجدارة والاحترام، ونُعلّق عليه أحلام الأسرة والمستقبل بأكمله. ثم لا نلبث أن نُعرض عن صاحبه إذا لم 'ينجح” لاحقًا بنفس الصورة التي كنا نتخيلها. كأننا ننسى أن الإنسان لا يُقاس بامتحان واحد، ولا أن الحياة ليست سباق علامات.
ما نحتاجه اليوم ليس إلغاء الامتحانات، بل إعادة هندسة مفهوم التفوق. علينا أن نوسّع رؤيتنا، فنُدرك أن من لا يبرع في الحفظ قد يبرع في الفكرة، أو في التجربة، أو في الريادة. وأن من لا يتصدر قوائم الأوائل، قد يكون هو من يُحدث الأثر الأكبر لاحقًا. نحتاج إلى تعليم يربّي العقول لا فقط الدفاتر، ويحضّر الإنسان للمشاركة في الحياة لا فقط اجتياز الاختبار.
أما لأبنائنا المتفوقين، فنقول: أنتم فخرنا الحقيقي، لكن لا تجعلوا المعدل سقف أحلامكم. العلامة العالية لا تعني أنكم أكملتم المهمة، بل أنكم حصلتم على فرصة مميزة لتبدأوا منها رحلتكم. لا تسمحوا لأي نظام أن يُقزّم طاقاتكم، ولا لأي رقم أن يحدّد قيمتكم. الحياة أكبر من ورقة، والنجاح الحقيقي هو أن تبنوا أنفسكم بكل أبعادها: علمًا، مهارة، أخلاقًا، ووعيًا.
أنتم لستم مجرد متفوقين، أنتم مشاريع تأثير إذا ما وجدتم البيئة التي تحتضنكم، والمدرسة التي تؤمن بكم، والمجتمع الذي يشجعكم على أن تكونوا أكثر من مجرد أرقام.
في النهاية، ليس المطلوب أن نكفّ عن الاحتفال بالمتفوقين، بل أن نحتفل بهم بطريقة جديدة: نحتفل بهم وهم يبدعون، وهم يفشلون ويتعلمون، وهم ينشئون شركات، ويكتبون كتبًا، ويخترعون، ويُعلّمون غيرهم كيف يصنعون أثرًا حقيقيًا، لا فقط كيف يملؤون فراغًا في ورقة الامتحان.
معدل التوجيهي هو لحظة ضوء، فلا تجعلوها آخر النور.