اخبار مصر
موقع كل يوم -الرئيس نيوز
نشر بتاريخ: ٢٢ حزيران ٢٠٢٥
في الشؤون الجيوسياسية، حيث الحقائق والسياسة والحكمة في اشتباك دائم مع ديناميكيات القوة والردع، قليلة هي الأرقام التي تمتلك القدرة على إعادة صياغة التوازنات الإقليمية وإثارة أزمات دولية، إلا أن الرقم ٤٠٩، الذي يعني ٤٠٩ كيلوجرامات من اليورانيوم المخصب بنسبة ٦٠٪ جمعتها إيران في أواخر الشهر الماضي، هو أحد تلك الأرقام النادرة.
وهذا الرقم لم يكن مجرد إحصائية فنية، بل تحول إلى رمز محوري لأزمة نووية أشعلت شرارة التصعيد بين إيران وإسرائيل، ودفع العالم إلى حافة حرب إقليمية.
وقبل ١٣ يونيو ٢٠٢٥، كان الرقم ٤٠٩ دليلًا على طموح إيران النووي ومبررًا للقلق الدولي من اقترابها من عتبة السلاح النووي. وبعد الضربات الإسرائيلية في ذلك اليوم، والضربات الأمريكية في فجر ٢٢ يونيو ٢٠٢٥، أصبح محور نقاش حول ما إذا كانت إيران لا تزال قادرة على تهديد المنطقة، فما هو سر الرقم ٤٠٩؟ وإلى أي مدى وصلت قدرات إيران النووية والصاروخية؟ وما هي الأضرار التي لحقت بها؟ وما التداعيات الجيوسياسية لأحدث التطورات في هذا الملف؟
قبل ١٣ يونيو ٢٠٢٥: بناء مخزون الـ٤٠٩ كجم
في الأعوام السابقة، كثفت إيران جهودها لتطوير برنامجها النووي، متجاوزة الحدود التي فرضها الاتفاق النووي لعام ٢٠١٥ JCPOA))، وبحلول الشهر الماضي، أعلنت الوكالة الدولية للطاقة الذرية IAEA)) أن إيران جمعت ٤٠٩ كجم من اليورانيوم المخصب بنسبة ٦٠٪، وهي نسبة قريبة بشكل خطير من المستوى المطلوب للأسلحة النووية (٩٠٪)، وفقًا لموقع الوكالة، فإن هذا المخزون أثار جرس إنذار دولي يصم الآذان، وأشارت تقديرات معهد العلوم والأمن الدولي، ومقره في واشنطن، بتاريخ ٩ يونيو ٢٠٢٥ إلى أن إيران قادرة على إنتاج ٢٥ كجم من اليورانيوم المخصب بنسبة ٩٠٪ (كافية لسلاح نووي واحد) خلال أيام.
ويبدو أن الرقم ٤٠٩ لم يكن مجرد كمية، بل كان إشارة إلى تحول استراتيجي خطير. وبعد انهيار مفاوضات إحياء الاتفاق النووي في أبريل ومايو الماضيين، كثفت إيران أنشطتها النووية كرد على العقوبات الأمريكية وتهديدات إسرائيل.
قبل يوم واحد من بدء الهجمات الجوية الإسرائيلية، وتحديدًا في 12 يونيو 2025، أصدرت الوكالة الدولية للطاقة الذرية تقريرًا حاسمًا. للمرة الأولى منذ 20 عامًا، أعلنت الوكالة أن إيران لم تفِ بالتزاماتها النووية، وانتهكت تعهداتها في هذا الشأن، وأشار التقرير إلى وجود جزيئات يورانيوم في مواقع غير مصرح بها، مثل موقع بارجين، حسبما ورد على موقع الوكالة على الويب.
تزامن هذا التقرير مع تحذير قائد القيادة المركزية الأمريكية، مايكل كوريلا، في 10 يونيو 2025، من أن إيران قادرة على إنتاج سلاح نووي في غضون أسبوع واحد، وفقًا لصحيفة الجارديان البريطانية. وهذه التطورات مجتمعة هيأت الظروف لشن إسرائيل ضرباتها.
الناقلات الصاروخية: سيف إيران الباليستي
البرنامج الصاروخي الإيراني يشكل الركيزة الثانية لقدراتها العسكرية، إلى جانب برنامجها النووي. وبحلول ٢٠٢٥، كانت إيران تمتلك ترسانة صواريخ باليستية متنوعة تشمل صواريخ متوسطة وقصيرة المدى، مما جعلها تهديدًا إقليميًا كبيرًا. وفقًا لتقرير مركز الدراسات الاستراتيجية والدوليةCSIS)) في أواخر العام الماضي، بعنوان 'ترسانة إيران الصاروخية: القدرات والتداعيات الاستراتيجية'، شملت الترسانة صواريخ مثل خرمشهر (بمدى ٢٠٠٠ كم، قادر على حمل رأس حربي يصل وزنه إلى ١٨٠٠ كجم) وفتاح-١ (صاروخ فرط صوتي بمدى ١٤٠٠ كم)، أما تقرير معهد واشنطن، فقد أشار إلى أن هذه الصواريخ يمكن أن تكون مناسبة لحمل رؤوس حربية غير تقليدية إذا طورت إيران مثل هذه الأسلحة.
واستهدفت الضربات الإسرائيلية الأولى منشآت إنتاج الصواريخ في أصفهان وطهران، لكن تقرير فرانس ٢٤ أشار إلى أن الأضرار كانت محدودة بسبب مواقع التصنيع تحت الأرض، وبدورها ردت إيران بعملية 'الوعد الصادق ٣'، التي أظهرت أن ترسانتها الصاروخية لا تزال فعالة، مما عزز من موقفها كقوة ردع إقليمية.
الرؤوس الحربية: بين القنبلة النووية والقنابل القذرة
تمثل الرؤوس الحربية العنصر الثاني في معادلة التهديد الإيراني. أما الرقم ٤٠٩ كجم من اليورانيوم المخصب بنسبة ٦٠٪، فكان محور القلق الدولي، حيث أشار تقرير جمعية التحكم في الأسلحة، Arms Control Association، في ١٠ يونيو ٢٠٢٥ إلى أن هذه الكمية كافية لإنتاج ٢-٣ أسلحة نووية إذا تم تخصيبها إلى ٩٠٪، ولكن لم تؤكد أي مصادر موثوقة أن إيران طورت رأسًا حربيًا نوويًا فعليًا.
في المقابل، كانت القنابل القذرة (Radiological Dispersal Devices - RDDs) بديلًا أقل تعقيدًا وأكثر احتمالًا، وحذر تقرير لمركز كارنيجي للسلام الدولي بعنوان 'الأسلحة الإشعاعية والشرق الأوسط' من أن إيران يمكن أن تستخدم مواد مشعة متاحة، مثل السيسيوم-١٣٧، لصنع قنبلة قذرة، وفي أعقاب الضربات الإسرائيلية، أشار تقرير لصحيفة 'إل باييس' الإسبانية في ١٦ يونيو ٢٠٢٥ إلى أن إيران ربما تلجأ إلى هذه الأسلحة كرد فعل انتقامي إذا شعرت بالتهديد الوجودي.
الوكلاء الإقليميون: شبكة نفوذ إيران
وسعت إيران نفوذها من خلال شبكة وكلاء إقليميين مثل حزب الله في لبنان، الحوثيين في اليمن، والميليشيات الشيعية في العراق. وفقًا لتقرير معهد واشنطن في يناير ٢٠٢٥ بعنوان 'شبكة وكلاء إيران: التداعيات الاستراتيجية'، زودت إيران هؤلاء الوكلاء بصواريخ قصيرة المدى وطائرات مسيرة، مما عزز قدرتهم على تهديد إسرائيل ودول الخليج، وفقًا لمعهد واشنطن، أما صحيفة الجارديان فتطرقت إلى مخاوف غربية من أن إيران ربما حاولت نقل مواد مشعة إلى حزب الله لتطوير أسلحة غير تقليدية، ولكن هذه المزاعم لم تُؤكد، إلا أن الضربات الإسرائيلية زادت من احتمالية أن تستخدم إيران وكلاءها للرد غير المتماثل، مما أثار مخاوف إقليمية من تصعيد غير مسبوق.
السباق التكنولوجي السري: ابتكارات إيران وردود المنطقة
لم يكن الرقم ٤٠٩ مجرد نتيجة لتكديس المواد النووية، بل كان دليلًا على تقدم تكنولوجي مذهل حققته إيران في التخصيب والصواريخ، مما أشعل سباقًا تكنولوجيًا سريًا في الشرق الأوسط. وسلط تقرير لمركز كارنيجي في مارس ٢٠٢٥ بعنوان 'سباق التكنولوجيا النووية في الشرق الأوسط' الضوء على تطوير إيران لأنظمة طرد مركزي تعتمد على الليزر، مما زاد كفاءة التخصيب في منشآت مثل فوردو، ويعتقد أن هذا دفع إسرائيل لتعزيز نظام الدفاع الصاروخي السهم-٣، كما أفاد تقرير لصحيفة 'زوددويتشه تسايتونج' الألمانية، وكانت السعودية قد أعلنت في مايو ٢٠٢٥ عن خطط لبرنامج نووي سلمي بالتعاون مع الصين، مدفوعة بتقدم إيران، وفقًا لمعهد الدراسات الأمنية الأوروبية EUISS، ويعتقد أن الضربات الإسرائيلية لم توقف هذا السباق، حيث بدأت إيران التعاون مع الصين على أجهزة طرد مركزي جديدة، وفقًا لموقع 'ريا نوفوستي نيوز' الروسي في ١٨ يونيو ٢٠٢٥.
الأضرار التي لحقت بالبرنامج النووي الإيراني: تدمير أم تعطيل أم مناورة سياسية؟
هدفت الضربات الإسرائيلية منذ ١٣ يونيو ٢٠٢٥، والأمريكية في فجر ٢٢ يونيو ٢٠٢٥، إلى إصابة البرنامج النووي الإيراني بالشلل، لكن حجم الأضرار لا يزال محل جدل.
وفي حين أن الضربات الإسرائيلية استهدفت نطنز، فوردو، ومركز أصفهان للأبحاث النووية، مما أدى إلى تدمير البنية التحتية السطحية في نطنز، بما في ذلك شبكات الكهرباء الحيوية لتشغيل أجهزة الطرد المركزي، أشار تقييم الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى تعطل جزئي فقط في نطنز، مع بقاء منشأة فوردو سليمة نسبيًا بفضل تصميمها المحصن تحت الأرض، أما الضربات الأمريكية، التي استخدمت قنابل GBU-57A/B الخارقة للتحصينات، فقد ركزت على ورش تجميع أجهزة الطرد المركزي في نطنز، والبنية التحتية الداعمة في فوردو، ومرافق أبحاث في أصفهان. وكشفت صور الأقمار الصناعية من موقع Maxar Technologies، والتي نقلتها شبكة “سي إن إن” أضرارًا كبيرة في هياكل نطنز السطحية، لكن عدم رصد تسرب إشعاعي يشير إلى أن مخزون الـ٤٠٩ كجم لم يُصب مباشرة أو نُقل مسبقًا كما أكدت وسائل الإعلام الإيرانية.
تجدر الإشارة إلى أن بعض الخبراء مثل ديفيد أولبرايت المحلل العلوم والأمن الدولي قدروا أن الضربات المتتالية أخرت البرنامج النووي الإيراني بمدة ٦-١٢ شهرًا بسبب تدمير أجهزة طرد مركزي متقدمة وأنظمة الطاقة اللازمة للتغذية، ولكنهم أشاروا إلى أن الخبرة العلمية الإيرانية وجزء من المخزون لا يزالان متاحين لإعادة البناء، وتعتقد كيلسي دافنبورت الباحثة بجمعية الحد من الأسلحة (ACA) أن الضربات لم تُصمم لتدمير البرنامج بالكامل، بل لتعطيله مؤقتًا وإجبار إيران على العودة إلى طاولة المفاوضات.
وكشفت الولايات المتحدة أنها أبلغت إيران أن الضربات 'محدودة' ولا تستهدف تغيير النظام، مع تواصل المبعوث ستيف ويتكوف عبر قنوات غير رسمية لتهدئة التصعيد، وفقًا لموقع 'سي بي إس نيوز'، كما ذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال” أن الهدف الأمريكي كان الضغط على إيران لقبول شروط أكثر صرامة في المفاوضات، بما في ذلك قيود على التخصيب والصواريخ.
وعلى المدى الطويل، لم تقضِ الضربات على طموحات إيران النووية. وذكر تقرير رويترز نقلًا عن مسؤول إيراني أن أجزاء من مخزون الـ٤٠٩ كجم نُقلت إلى مواقع آمنة قبل الضربات الأمريكية، علاوة على تعاون إيران اللاحق مع الصين لتطوير أجهزة طرد مركزي جديدة، كما ذكر موقع 'ريا نوفستي ' الروسي، ما يشير إلى أن البرنامج قد يتعافى.
وبالتالي، بينما تسببت الضربات في تعطيل كبير، فإنها كانت على الأرجح مناورة دبلوماسية لإعادة ضبط إعدادات المفاوضات بدلًا من ضربة حاسمة.
التداعيات الجيوسياسية: من ٤٠٩ إلى الصراع
كان الرقم ٤٠٩ كان نقطة تحول جيوسياسية، وقد أثار هذا المخزون توترات مع الغرب، حيث اعتبرته إسرائيل والولايات المتحدة تهديدًا وجوديًا. كما أن فشل مفاوضات الاتفاق النووي وتحذيرات الوكالة الدولية للطاقة الذرية من بين العوامل التي مهدت الطريق لاندلاع الحرب.
وبعد الضربات، أعادت إيران تشكيل المشهد الجيوسياسي بعملية 'الوعد الصادق ٣'، مما أظهر قوة قدراتها. وأشار تقرير لصحيفة كوميرسانت الروسية إلى تعزيز إيران لتحالفاتها مع روسيا والصين، كما حذر تقرير من معهد إلكانو الإسباني في ١٧ يونيو ٢٠٢٥ من احتمال انسحاب إيران من معاهدة حظر الانتشار النووي NPT)).
المزيد عن سر الرقم ٤٠٩
يظل الرقم ٤٠٩ لغزًا جيوسياسيًا. هل كان دليلًا على نية إيران لتطوير سلاح نووي؟ أم كان ورقة تفاوض؟ أم رمزًا لسباق تكنولوجي إقليمي؟ لكن الضربات الإسرائيلية ومؤخرًا الأمريكية لم تقدم إجابات نهائية، بل زادت من الغموض. ولفت تقرير لمجلة 'فورين أفيرز' إلى أن إيران لا تزال تمتلك الخبرة لإعادة بناء برنامجها.
