اخبار اليمن
موقع كل يوم -سبأ نت
نشر بتاريخ: ٢٣ تشرين الأول ٢٠٢٥
غزة - سبأ:
ما إن أُعلن عن وقف إطلاق النار في العاشر من أكتوبر، حتى دبّت الحياة مؤقتًا في قلوب النازحين داخل قطاع غزة. خرجت الزغاريد خجولةً من بين الخيام، وارتسمت على الوجوه ابتسامات تشبه الهدنة نفسها، 'قصيرة العمر'.
فرحة النجاة سرعان ما تبخّرت أمام واقعٍ أثقل من الحرب نفسها؛ واقعٍ تحكمه ثلاثيّة الخوف والركام والفقر.
لم تعد العودة إلى البيوت مجرّد رحلة إلى المكان، بل اختبارٌ للشجاعة في مواجهة المجهول. فبين منازل تحوّلت إلى أطلال، ومناطق صُنّفت عسكرية، وخطرٍ دائم بتجدّد العدوان الصهيوني، يقف عشرات الآلاف من النازحين على بوابة الانتظار، يحملون مفاتيح بيوتٍ لم تعد موجودة، وذكرياتٍ لا تزال تحترق تحت الغبار.
في مخيم الإيواء غرب دير البلح، تجلس أم محمد منصور (39 عامًا) أمام خيمتها، تحدّق بصمتٍ في أطفالها الثلاثة وهم يلعبون فوق الرمل، كأنهم يحاولون نسيان الحرب ببعض حبات التراب.
تقول أم محمد لـ صحيفة (فلسطين): 'حين سمعنا بخبر وقف إطلاق النار، ظننت أن المعاناة انتهت. احتضنت أولادي وبكينا من الفرح. لكن بعد أيام فقط، عاد القصف على رفح، فعرفت أن الحرب لم تنتهِ فعلًا.'
ثم تخفض صوتها وتضيف: 'أخاف أن نعود فندفع الثمن مرة أخرى. لا أريد أن أعرّض أطفالي للرعب من جديد. طالما لا توجد ضمانات حقيقية، سنبقى نعيش على أمل العودة فقط.'
بين كلماتها تختبئ خيبة الأمل التي يعيشها آلاف النازحين، ممن يحلمون بالعودة إلى بيوتهم، لكنهم يدركون أن بين الحلم والواقع رمادًا كثيرًا.
في منطقة المواصي غرب خان يونس، يعيش خالد ناصر (46 عامًا) داخل خيمةٍ مهترئة صنعها من أقمشة المساعدات. يجلس قرب موقدٍ صغير يشعل عليه بضع عيدان خشب، في مشهدٍ يختصر العجز بعد عامين من الحرب.
يقول خالد: 'أريد أن أعود إلى بيتي، لكن كيف؟ سائقو الشاحنات يطلبون اليوم ما بين 2000 و3000 شيكل لنقل العائلة من الجنوب إلى غزة. من أين لي بهذا المبلغ؟ لا عمل، لا مال، ولا مستقبل في هذه الخيمة.'
يبتسم بمرارة ويضيف: 'يظن الناس أن وقف الحرب يعني نهاية العذاب، لكنه بالنسبة لنا بداية جديدة لمعركة البقاء. من يملك المال يعود، ومن لا يملكه يبقى هنا ينتظر المجهول.'
أما سمر أبو سلمية (34 عامًا)، التي نزحت من بلدة بيت لاهيا شمال القطاع، فتقف على حدود الخطر. منطقتها تقع ضمن ما يسميه العدو الإسرائيلي 'الخط الأصفر' — منطقة يُمنع الفلسطينيون من دخولها.
تقول سمر بصوتٍ متعب: 'يمنعوننا من الاقتراب، ويطلقون النار على أي مركبة تحاول الدخول. كيف نعود ونحن نعلم أننا قد نموت في الطريق؟'
تُخرج هاتفها القديم لتُري صورة منزلها المدمر، وتقول: 'حتى لو سمحوا لنا بالعودة، فإلى ماذا سنعود؟ لا ماء، لا كهرباء، لا مدارس. بيتي أصبح كومة من الركام، والمستشفى الذي كنت أراجع فيه أطفالي لم يعد قائمًا.'
ثم تصمت قليلًا قبل أن تضيف بصوتٍ يختنق بالحزن: 'قبل أيام فقط، استُهدفت عائلة شعبان في حي الزيتون أثناء عودتهم إلى منزلهم داخل الخط الأصفر. استشهد 11 شخصًا بينهم سبعة أطفال. كانوا فقط يريدون العودة إلى بيتهم.. لكنهم عادوا إلى الموت.'
بين خيمةٍ ممزقة وبيتٍ تحوّل إلى غبار، يقف آلاف النازحين في غزة أمام واقعٍ مرير: لا عودة آمنة، ولا حياة كريمة في النزوح.
فالخوف يحاصرهم من الجو، والفقر يقيدهم على الأرض، والركام يقطع عليهم طريق العودة.
وبين هذه الثلاثية القاسية، تبقى غزة — كما دائمًا — تحاول أن تنهض من تحت الركام، وأن تُثبت أن الحياة في هذه الأرض لا تُهزم، حتى وإن تأخرت العودة.
إكــس