اخبار اليمن
موقع كل يوم -شبكة الأمة برس
نشر بتاريخ: ٢٤ نيسان ٢٠٢٥
رشيد المومني*
بصدد مقاربة التجربة التشكيلية للشاعر عبد اللطيف اللعبي، سيكون علَى التأويل أن يتوخى ما أمكن من التَّريُّث، تلافيا للمجازفة بأحكام نقدية مشوبة بإسقاطاتها الذاتية، التي تبدو إلى حد ما، محتفظة بحضورها في مرجعية المقاربة. وسيكون من الضروري التذكير ببعض عوامل هذه الإسقاطات المفترضة. منها على سبيل المثال لا الحصر، علاقتي الوطيدة والعميقة بشعرية عبد اللطيف، التي يعود تاريخها لعدة عقود خلت، حيث سبق لي أن اشتغلت عليها في أكثر من مناسبة، الشيء الذي قد يؤدي إلى قراءة تجربته التشكيلة على ضوء المرجعية الشعرية، بما يفضي إلى تحجيمها، وإلحاقها بخانة الكتابات النصية، كي تتحول في نهاية المطاف، إلى مجرد هامش فني، ينضاف إلى مركزية القول الشعري الذي يتميز به عبد اللطيف. والحال أن تجربته التشكيلية، لا يمكن أن تقارب إلا ضمن استقلاليتها الخاصة بها.
أيضا، من بين الإسقاطات المحتملة ضمن هذا السياق، شغفي وفي مرحلة جد مبكرة من مساري الإبداعي، بالجمع بين الكتابة الشعرية والتشكيل الفني، كتجربة جمالية مزدوجة البعدين. وهي إسقاطات، قد يؤدي تجاهلها إلى تحجيب القضايا الجوهرية التي تتطلع المقاربة إلى إضاءتها، حيث سيكون من الضروري أخذها بعين الاعتبار، توخيا لما أمكن من الموضوعية.
بمعنى أن الاهتمام سيتمحور أساسا، حول التجربة التشكيلية لدى عبد اللطيف اللعبي، وطبعا في سياق انفتاح شعريتها الخاصة بها، على أفقها الجمالي والإنساني، ذلك أن المرجعية الشعرية الملازمة لمساره، سوف تحتفظ بسلطتها الإجرائية، فقط في حدود انفتاح إضاءتها على منجزه التشكيليـ ولعل سياق الانفتاح هذا، هو الذي سيكاشفنا فيه الأفق الشعري عن جوهر خصوصيته، بوصفه الفضاء النموذجي المستقطب لأكثر الأسئلة الفكرية والجمالية حضورا في حياة المبدع. وأيضا، بوصفه الإطار الموضوعي الذي يمد الأجناس الفنية والإبداعية المنضوية فيه، بعمقها الدلالي وشحنتها الروحية والفكرية. نخلص من هذا التصور، للتنويه بخصوصية وقفة الشاعر عبد اللطيف اللعبي أمام بياض اللوحة، وهي تتهيأ لاستقبال تشكيلات كائناته وتلويناتها، باعتبارها وقفة مغايرة لتلك التي تتحقق أمام بياض صفحة الكتابة. إنه الوقوف الآخر، الذي يتحول معه بياض اللوحة إلى كون كامل ومتكامل، من الإشارات التي تتقاذفها أشياء العالم. أشياء الجسد، الذاكرة، والروح، مما يراه البصر وما تراه البصيرة، وكذا أشياء الظاهر والباطن. وهي في عمومها الإشارات التي تتجلى لرؤية الشاعر، حينما يحدث أن يوجد مؤقتا بعيدا عن الصفحة، قصد معاينته لمشهد تماسّ مَجَرَّاته الذاتية، بحيطان المعيش، ومشهد اصطدامها بأسيجته الشائكة، التي تتناسخ صفاتها وأسماؤها ودواعيها.
وسيكون من الطبيعي في هذا السياق، أن تتماهى أسئلة الشاعر، مع مجموع ما يتفاعل في مشارف ومسالك ذاكرته ومخياله من قناعات ومواقف. أيضا، سيكون من الطبيعي أن يتبلور هذا التماهي على مستوى المعيش، في صيغة ردود أفعال/مواقف واقعية مادية وملموسة، ثم في صيغة أعمال فنية، على مستوى الممارسة الجمالية والإبداعية، وقد تبلورت على هيئة تشكيلات وتفضيات، تتنافر أو تتناغم فيها الألوان بالبياضات، والفراغات بالخطوط، بمعنى أن منطق اللوحة هنا، يكون مدْعُوا للانفصال عن منطق الصفحة، التي تستقل بكينونتها الخاصة بها، دون أن تكون بالضرورة إبدالا موازيا لها.
وإلحاحنا على جدوى الفصل بين خيمياء الصفحة بوصفها السكن الذي تطمئن إليه القصيدة، وخيمياء اللوحة التي تطمئن إليها الأشكال والألوان، ينهض من واقع التباين الطبيعي القائم بين اللغات، التي تتحدث بها وتكتب بها أشياء العالم. ذلك أن النداءات التي تمتلك إيقاعاتُها القدرةَ على إيقاظ الكلمات، تختلف عن تلك المؤهلة لتحفيز اللون والشكل، كي يمارسا شطحاتهما في أفياء اللوحة وفضاءاتها. وبالتالي، فإن ما يبوح به الشاعر، لا يتماهى بالضرورة مع ما يكاشفنا به الفنان، مع الإقرار باستحالة تمييز ذلك الخيط الرهيف الفاصل بين عوالمهما، التي تتبادل الإضاءة في ما بينها، دون أن تتورط بالضرورة في أي صيغة من صيغ التماهي.
ومن المؤكد أن تعدد الفضاءات والمتاهات، التي دأبت على استضافة جسد وروح عبد اللطيف اللعبي، كُرْهًا، أو طواعية، سواء في ظلمة أقبيتها وسراديبها، أو على ما تيسر من ضفاف طمأنينتها، قد ساهمت بشكل كبير في تعدد وتنوع أسئلته الفكرية والجمالية، بما يحفزه على البحث على تنويع مداخله ومساراته، ليشرع أبوابه ونوافذه على غوايةِ أكثر من تجريب شعري أو تشكيلي.
يحدث ذلك، حينما تضيق العبارة أكثر، أمام اتساع أكوان ذاتٍ، لا تلبث أن تستعجل تفقُّدها لما يَفتح المجال لرؤية مختلفة عن رؤية الكتابة، التي ليست هنا سوى الرؤية التشكيلية بامتياز. أي الرؤية التي سوف تنتبه فيها المقاربة إلى أنها أمست في حضرة إيماء آخر، لأحوال أخرى، ولمقامات مغايرة، لتلك التي تتردد عليها هوادج العبارة. هكذا سنتتبع عن قرب، يد الفنان وهي تكشف عن تلك الأسرار الغامضة المتخفية تحت بياض القماش، بإيعاز من المادة الإكليريكية. أسراره هو، التي لا علم له بها. أسرار متخيله ومعيشه. أسرار الأحلام والكوابيس أيضا، وقد أخذت شكل كتل تنتشي بترحالها في مجالي الألوان المتعطشة للفناء في ألوانها. تلك هي بعض التوصيفات الأولية، الموغلة في التعميم والتجريد، والتي يمكن للعين أن تستعين بها في استجلاء ما قَلَّ ودَلَّ من أبعاد اللوحات، خلال تجوالها الشيق والممتع في رحاب جمالياتها. لكن، ومع مداومة حالة استئناس العين بما تراه، سوف يتضح نسبيا تساؤل الرؤية عن دلالة تلك التشكيلات المندغمة والمتلاحمة في ما بينها، في أفق تلمس هوية الإطار العام، الذي تتوحد فيه الإشارات/الكائنات الحية، المتفاعلة في اللوحات، دون أن تدوم على حال تكون لها.
وكما لو أن ثمة ما يشي بتواطؤ محتمل بين القماش، وطبيعة المادة التلوينية، سوف تجِد الكائنات في تتالي فضاءات اللوحات، ذريعتَها الموضوعية للاحتماء ببعضها من شرِّ احتمالات عدوانية، أو كيْدِ مُبَيَّت، صادر عن هذه الظلمة، أو تلك، ممارِسَةً خلال ذلك تحولاتها الجمالية والرؤيوية، بكل ما في حركة الفرشاة من تلقائية وسلاسة.
إنها هي، الكائنات الدقيقة، التي في هيئة عوالق، أو نُطَفٍ قابلة للتًجلي. كائنات في صورة رخويات بشرية. أيضا، هي ربما ذواتٌ في طور التكوين. هواجسٌ، أفكار، تخيلات، أو مسلمات مقَنَّعَةٌ.. مشاريعُ تصويبٍ لأخطاء من صنع السماء أو الأرض، أو لربما هي أرواح عابرة للجسد، للذاكرة وللحلم.. ثم من المحتمل أن تكون كل هذا وذاك.
غير أن ما يبدو أساسيا للعين المتأملة، هو حرص الكائنات ذاتها على أن تظل متلازمة ومتداخلة تحسُّبا لمداهمَة خرقاء تسعى لتشتيتها، وفصلها عن بعضها، خاصة أن مصدر قوتها وجاذبيتها الجمالية، يتمثل في تواشج وتآزر مكوناتها/ أعضائها ، إما بمنهجية التنضيد، التصفيف، أو التوليف. هي هكذا، جمهرةُ أجساد مِجهرية فيها ولها ما يشبه الأجساد أو تكاد. أحيانا توحي بكونها في الأصل أنْوِيَّةُ انفعالات مجَسْدَنَة، قادرة على الكلام والبوح، أو محتملُ إشارات فيزيائية، لكَ أنْت أن تفسر وتؤول دلالاتها.
لوحاتُ كائناتٍ، هي بأمزجة الحياة، حيث ما من لون يبقى أو يدوم، لأجل هذا سوف تنغلق الدكنة على ذاتها في خلوة هذه اللوحة، كي تشرع في انفتاحها عبر تتالي اللوحات والأشكال، على أمزجة ألوانِ أحوالٍ ومقاماتٍ، لا تتردد في تغيير قشرتها، كلما دعت ضرورة الحال لذلك.
*كاتب من المغرب