اخبار اليمن
موقع كل يوم -شبكة الأمة برس
نشر بتاريخ: ١ حزيران ٢٠٢٥
فالح الحمراني*
ثمة رأي شائع مفاده لولا الأديب / المفكر الروسي فيودور دوستويفسكي لما كان الأدب الفرنسي كما عليه اليوم. وكان من بين الذين روجوا لهذا الرأي السائد ألبير كامو الذي اعتبر نفسه تلميذا لدوستويفسكي وحوّل روايته الأثيرة لديه «الشيطان» إلى مسرحية واقتبس العديد من أفكاره. وكان يكرر أن تاثير عبقرية الكاتب الروسي تجاوز حدود بلده منذ زمن طويل ولم تفقد قوة تأثيره. وصرح كامو قبيل وفاته في أواخر خمسينيات القرن الماضي: «الآن نعرف أن أبطال دوستويفسكي ليسوا غرباء أو عبثيين. نحن نشبههم، يجمعنا واياهم قلب واحد. وإذا كانت «الشياطين» رواية نبوئية، فذلك ليس فقط لأن شخوصها كانوا قبلنا عدميين، بل لأنهم يُظهرون على المسرح أرواحا ممزقة وميتة، عاجزة عن الحب وتعاني، لهذا فهي متعطشة للإيمان لكنها لا تملكه. واليوم، غمر هؤلاء الأبطال مجتمعنا، وعالمنا الروحي».
وترصد الناقدة الروسية آلّلا لاتيننا في دراستها «دستويفسكي والوجودية» التشابه الماثل للعيان بين شخصيتي رواية دستويفسكي «الجريمة والعقاب» راسكولنيكوف و»الغريب لكامو» ميرسو اللذين تورطا بارتكاب جريمة قتل مجانية، رغم اختلاف مقاربات الأديبين منهما. وتمضي بالقول: وعموما أن ماتيف إبداعات دوستويفسكي تغلغل على نطاق واسع في أعمال الأدب الوجودي. علاوة على ذلك، يُعتقد أن أفكار الكاتب الروسي الكبير تركت انعكاساتها بمختلف الأشكال على الفلسفة الوجودية نفسها.
لقد ارتبطت حياة كامو الأدبية والفكرية على مدى ربع قرن (1935-1960)، ارتباطا وثيقا بأعمال دوستويفسكي. ولم تظل أهمية إنتاجات الكاتب الروسي جامدة في ذهن كامو فقد مرت بتطور معقد، ارتبط بأحداث العصر والحياة الروحية للكاتب نفسه.
بدأ كامو بالتعرف على أعمال دوستويفسكي عندما كان في العشرين من عمره، حينما كان يدرس في الجامعة في الجزائر، وسرعان ما أصبح مهتما بها، ولعب دور إيفان كارامازوف على خشبة المسرح. وصرح كامو عن دوره كإيفان: «لقد لعبته، ربما، بشكل سيئ، لكن بدا لي أنني فهمته تماما». واستذكر في عام ١٩٥٥، في حديث إذاعي بعنوان « من أجل دوستويفسكي»، قائلا: «تعرفت على أعمال دوستويفسكي وأنا في العشرين من عمري، ولا تزال الصدمة التي شعرتُ بها عند ذلك اللقاء حية في وجداني حتى اليوم، أي بعد عشرين عاما. في البداية، أعجبني أن دوستويفسكي كشف لي الطبيعة البشرية، كشفها بكل معنى الكلمة، لأنه يُعلّمنا ما قد عرفناه نحن، بيد أننا نرفض الاعتراف به. علاوة على ذلك، فقد دارى إحدى نقاط ضعفي الذي تمثل بشغفي بالوضوح من اجل الوضوح. ولكن مع تفاقم مأساة عصرنا، سرعان ما أحببت في دوستويفسكي، ذلك الأديب الذي فهم وصوَّرَ مصيرنا التاريخي بعمقٍ بالغ».
ولم يخفِ كامو اهتمامه بأعمال دوستويفسكي. وقد ردد هذا في أغلب أعماله. ويذكر مرارا أن أعمالا مثل «الإخوة كارامازوف»، و»الشياطين»، و»مذكرات من الاعماق»، و»مذكرات كاتب» (وخاصة مقال «الحْكم»)، و»الجريمة والعقاب». إن أعمال دوستويفسكي أثارت من دون شك اهتمام كامو من الناحية النفسية، وذلك بفضل التصوير الحي لمشاعر الشخصيات التي أدركت عبثية الحياة؛ ومن منظور ميتافيزيقي فيما يتعلق بقضايا الحياة والموت والأخلاق والحرية.
ويركز كامو، مثل دوستويفسكي، على دراسة الإنسان بحد ذاته. كما يُعد كامو من الفلاسفة الوجوديين، رغم نفيه انتماءه لهم، الذين ركزوا اهتمامهم على الإنسان وتجربته في الوجود. وكتب في عام 1943: «إن أعظم اقتصاد ممكن في مجال الفكر هو الاتفاق على أن العالم غير قابل للمعرفة ودراسة الإنسان». وينطبق الأمر نفسه على دوستويفسكي. فقد حدد، وهو في الثامنة عشرة من عمره، أثناء دراسته في كلية الهندسة بسانت بطرسبرغ، هدفه واهتمامه الرئيسي طوال حياته وأعماله اللاحقة: «الإنسان لغز! يجب حله». وكتب الفيلسوف الوجودي/ الديني الروسي نيكولاي برديايف عن دوستويفسكي: «يفتح دوستويفسكي عوالم جديدة. هذه العوالم في حالة حركة متسارعة. ومن خلال هذه العوالم وحركتها، تتكشف مصائر الإنسان». وسوف يركز هذا العمل، بدوره، أيضا على القضايا الأساسية المتعلقة بالوجود الإنساني.
ورصد البحاثة تشابها واضحا عند دراسة مقاربات الأديبين/ المفكرين لمشاكل العبث، والانتحار، والدين، والعدمية، والتمرد: وتأكدت هذه التشابهات في المقالات الفلسفية والأعمال الفنية للأديبين. ومن المهم أن نلاحظ أن دراسة فلسفة دوستويفسكي وكامو من هذا المنظور أتاحت بالتوصل إلى فهم أعمق لهما من خلال رواياته «الشياطين»، و»الإخوة كارامازوف» ومقالته «الحْكم»، لقد طرح دوستويفسكي الأسئلة التي حفزت لاحقا تفكير كامو. إن وصف دوستويفسكي للعبث الذي تتسم به بعض شخصياته، أثر بلا ريب بصورة كبيرة على فهم ألبير كامو للعبث. علاوة على ذلك فإن استنتاج كامو في أسطورة سيزيف بأن إدراك العبث لا يؤدي بالضرورة إلى الانتحار تطوير لحوارات كيريلوف في « الشيطان، ومقالة «الحْكم». وعلى الأرجح أن هذه الحجج لم تكن لتظهر على الإطلاق لو لم يكن الأديب/ الفيلسوف الفرنسي مطلعا ومستوعبا لأعمال دوستويفسكي. علاوة على ذلك، نجد تأثير دوستويفسكي في موقف كامو تجاه الدين، رغم أن النتيجة النهائية مختلفة بصورة لافتة، إذ توصل دستويفسكي إلى الخلاص بالإيمان، في حين لم يقبل كامو الخالق مطلقا. إن هذا الرفض كان متأثرا إلى حد كبير بالمنطق الذي وضعه دوستويفسكي على لسان إيفان كارامازوف. وأما بالنسبة لمشكلة التمرد، فإن صياغة فهمها أيضا تمر عبر تفكير دوستويفسكي. عندما تعرض كامو للعديد من أفكار دوستويفسكي كان إما أن يوافق عليها أو يرد عليها بالنقد – لكنه لم يظل غير مبالٍ أبدا حيالها. الحوار مع دوستويفسكي هو سمة مميزة ثابتة لأعمال كامو – سواء المقالات الفلسفية أو الروايات والمسرحيات والمقالات والخطب وما إلى ذلك. لقد حفز إبداع المفكر الروسي إلى حد كبير وحدد تشكيل فلسفة كامو.
وهناك تشابه آخر بين دوستويفسكي وكامو هو أنهما كليهما لم يقم أي نظام فلسفي صارم، ولم يكتبا رسائل فلسفية طويلة مليئة بالمصطلحات الفلسفية لكن أعمالهما تخطت حدود الأعمال الأدبية البحتة.
*كاتب من العراق