اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ٣٠ أب ٢٠٢٥
الأردن: وطن تحت سحابة دخان.. صراع المال والصحة #عاجل
كتب د. عدلي قندح
يعيش الأردن تحت وطأة أزمة صحية واقتصادية متفاقمة، تتمثل في الانتشار المرعب للتدخين بين سكانه. فبينما تُصنف المملكة في المرتبة الأولى إقليمياً كأكثر الدول استهلاكاً للتبغ، يقف صانعو القرار في مواجهة معضلة حقيقية: هل الأولوية لصحة المواطن أم لإيرادات الخزينة التي تُضخ بمليارات الدنانير من ضرائب السجائر؟ هذا الصراع بين أهداف وزارة الصحة وأهداف الخزينة يُلقي بظلاله القاتمة على مستقبل الأجيال القادمة، ويجعل من الأردن ساحة لمعركة خاسرة يدفع ثمنها الجميع.
أرقام صادمة وكارثة صحية وشيكة
تكشف الأرقام عن حجم الكارثة التي يواجهها الأردن. فنسبة المدخنين تتجاوز نصف السكان، لتصل إلى 53%، وهي من بين أعلى المعدلات عالمياً. هذا يعني أن أكثر من 2.7 مليون أردني يقعون في فخ إدمان النيكوتين، مع توقعات بارتفاع هذا العدد. والأكثر إثارة للقلق هو انتشار التدخين بين الشباب، حيث تبلغ النسبة 59% في الفئة العمرية 25-34 عاماً، و50% في الفئة العمرية 18-24 عاماً، مما ينذر بمستقبل صحي مظلم.
هذا الانتشار الواسع للتدخين يُترجم إلى عبء صحي هائل. فالأردن يتكبد سنوياً ما يقدر بـ 1.5 مليار دينار (2.1 مليار دولار) لعلاج الأمراض الناتجة عن استهلاك التبغ، مثل أمراض القلب، السرطان، وأمراض الجهاز التنفسي. هذه التكاليف الباهظة تُرهق النظام الصحي وتستنزف الموارد التي يمكن توجيهها لتحسين الخدمات الصحية في مجالات أخرى.
المفارقة الاقتصادية: إيرادات ضريبية مقابل خسائر فادحة
في مقابل هذه الكارثة الصحية، تقف الخزينة الأردنية لتجني ما يقارب المليار دينار سنوياً من ضرائب التبغ. هذه الإيرادات، وإن كانت تبدو مغرية على المدى القصير، إلا أنها لا تُقارن بالخسائر الاقتصادية الفادحة التي يتكبدها الاقتصاد الوطني. فإجمالي الخسائر الاقتصادية السنوية للأردن من تعاطي التبغ يُقدر بـ 1.6 مليار دينار، أي ما يعادل 6% من الناتج المحلي الإجمالي. هذا يعني أن كل دينار تجنيه الخزينة من ضرائب التبغ، يُقابله خسارة أكبر في الاقتصاد، متمثلة في تكاليف العلاج وفقدان الإنتاجية بسبب الأمراض والوفيات المبكرة.
إن الاعتماد على ضرائب التبغ هو بمثابة استثمار في المرض، ومكسب قصير الأجل مقابل خسارة استراتيجية طويلة الأجل في رأس المال البشري، الذي هو أساس التنمية والازدهار. هذه المفارقة الاقتصادية تتطلب وقفة جادة لإعادة تقييم الأولويات، والانتقال من سياسة جبائية قصيرة النظر إلى رؤية استراتيجية تضع صحة المواطن في المقام الأول.
فجوة بين القانون والواقع: ثقافة تُشجع على التدخين
على الرغم من وجود قانون يمنع التدخين في الأماكن العامة، إلا أن تطبيقه لا يزال ضعيفاً ومتساهلاً. فالاستثناءات التي تسمح بالتدخين في المطاعم والمقاهي، وتخصيص أفضل الأماكن للمدخنين، تُرسخ ثقافة اجتماعية تُشجع على التدخين وتجعله سلوكاً مقبولاً بل ومفضلاً. هذا الانحراف في منطق الأشياء، حيث يُصبح غير المدخن هو 'المنبوذ”، يُشكل عائقاً كبيراً أمام أي جهود جادة لمكافحة التدخين.
على النقيض من ذلك، تتبع الدول المتقدمة سياسات شاملة تهدف إلى 'إزالة التطبيع” مع التدخين، من خلال حظر شامل في الأماكن العامة، حملات توعية مكثفة، تغليف بسيط للسجائر، وزيادة كبيرة في الضرائب. الهدف هو بناء ثقافة عامة تُصور التدخين على أنه سلوك ضار وغير مقبول اجتماعياً، وليس رمزاً للحرية أو التحضر.
نحو رؤية جديدة: صحة المواطن أولاً
إن مواجهة أزمة التدخين في الأردن تتطلب إرادة سياسية حقيقية ورؤية استراتيجية تتجاوز المصالح المالية قصيرة الأجل. يجب على الحكومة اتخاذ إجراءات حاسمة، تبدأ بتطبيق صارم لقانون منع التدخين في جميع الأماكن العامة دون استثناء، وزيادة الضرائب على منتجات التبغ بشكل كبير، مع توجيه هذه الإيرادات لدعم برامج مكافحة التدخين وتوفير العلاج للمدخنين الراغبين في الإقلاع.
الأهم من ذلك، يجب العمل على بناء ثقافة مجتمعية جديدة، خاصة بين الأطفال والشباب، تُرسخ مفاهيم الحياة الصحية وتُنبذ التدخين. يجب أن تُصبح الرسالة واضحة للجميع: التدخين ليس حرية شخصية عندما يضر بصحة الآخرين، وهو ليس مصدراً للازدهار الاقتصادي عندما يستنزف موارد الدولة ويدمر صحة مواطنيها. إن صحة الأجيال القادمة هي الاستثمار الحقيقي الذي يجب أن نسعى إليه جميعاً، وهي السبيل الوحيد للخروج من تحت سحابة الدخان التي تُخيم على سماء الأردن.