اخبار اليمن
موقع كل يوم -الثورة نت
نشر بتاريخ: ٦ كانون الأول ٢٠٢٥
الثورة/ يحيى الربيعي
في الوقت الذي تحيي فيه دول العالم «اليوم العالمي للتطوع» في الخامس من ديسمبر كطقسٍ بروتوكولي سنوي، تتخلله الاحتفالات الرسمية والصور التذكارية، يعيد اليمنيون في عمق معاناتهم وحصارهم صياغة هذا المفهوم من جذوره، منتزعين إياه من قوالب «العمل الخيري» التقليدي، ليغدو عقيدة تنموية راسخة وجبهة متقدمة في معركة الوجود. هنا، لا يُقاس التطوع بساعات العمل المكتبي، بل بقطرات العرق التي تمتزج بتربة الأرض، وبالسدود التي تُشيّد بالأيدي العزلاء، وبالوعي الذي ينتشر في القرى كنور يبدد ظلام ليل طويل من التضليل، مبشراً بعصرٍ جديد من «الجهاد الاقتصادي».
وفي خضم هذه المعركة الصامتة ضد قوى الهيمنة والاستكبار، يبرز «فرسان التنمية» كطليعة ثورية مجتمعية، يحملون على عاتقهم مهمة شاقة تتمثل في هندسة المجتمع اجتماعياً واقتصادياً، ونقله من مربع «الاحتياج» والانتظار، إلى فضاءات «الإنتاج» والاقتدار. هذا التحول الجذري رصدته «الثورة» في استطلاع ميداني معمق مع نخبة من الإعلاميين التنمويين في محافظة الحديدة، الذين أكدوا أن انطلاقتهم في العمل الطوعي ليست ترفاً، بل هي استجابة حتمية لنداء الواجب الديني والوطني، تهدف إلى تحفيز المجتمعات المحلية نحو حراك زراعي وتنموي شامل، يؤسس لسيادة غذائية تكسر قيود التبعية للخارج.
الإعلام التنموي.. من »نقل الخبر« إلى »صناعة الوعي«
بداية الخيط، كانت مع الإعلامي التنموي طاهر محمد أحمد مهدلي، من مديرية بيت الفقيه، الذي تحدث بلغة الخبير المدرك لأبعاد المعركة، واصفاً الإعلام بأنه «رأس الحربة في معركة التنمية المستدامة». يرى مهدلي أن دور الإعلامي المتطوع تجاوز مرحلة التغطية الخبرية المجردة، وانتقل إلى مرحلة «التحشيد التنموي»، موضحاً أن مهمتهم تكمن في صناعة رأي عام مساند للتوجه الزراعي، وغرس القناعات بضرورة العودة إلى الأرض.
ويضيف مهدلي بلهجة حازمة: «نحن لا نواجه عدواناً عسكرياً فحسب، بل نواجه آلة إعلامية مضللة سعت لعقود إلى تسطيح وعي الأمة وتحديداً فئة الشباب. لذا فإن الإعلام التنموي هو خط الدفاع الأول المسؤول عن تحصين المجتمع من الشائعات، ونقل قصص النجاح والمبادرات المجتمعية كنموذج يُحتذى به». ويستطرد حديثه مشيداً بـ «فرسان التنمية» المنتشرين في العزل والقرى، الذين وصفهم بـ «مهندسي التغيير الاجتماعي»، مثمناً الدور الاستراتيجي لمؤسسة «بنيان التنموية» التي أرست مداميك العمل الطوعي المنهجي منذ العام 2017م، وحولت العشوائية في المبادرات إلى خطط استراتيجية تشمل الطرقات، والسدود، والصحة الحيوانية، والتمكين الاقتصادي، لتصبح «المشاركة المجتمعية» منهجية حياة لا مجرد فزعة عابرة.
جذور التطوع في »الهوية الإيمانية«
ومن زاوية أكثر عمقاً، يغوص فارس الإعلام التنموي محسن الهمشري، من الحديدة، في الجذور القرآنية لمفهوم التطوع، نافضاً عنه غبار المفاهيم الغربية المستوردة. يستشهد الهمشري بقوله تعالى: «وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ»، ليؤكد أن العمل الطوعي هو «تجارة مع الله» قبل أن يكون خدمة للمجتمع.
ويشرح الهمشري هذه الفلسفة قائلاً: «علينا أن ندرك أن التطوع في قاموسنا القرآني هو مشروع سامٍ لبناء الأمة، وليس مجرد تسلية لوقت الفراغ. إنه الوسيلة الأنجع لاستئصال (ثقافة الاتكال) التي زرعتها المنظمات الدولية لتدجين الشعوب». ويضيف بعبارات مشحونة بالوعي الاقتصادي: «مهمتنا كإعلاميين تنمويين هي تحويل المجتمع من مستهلك سلبي إلى شريك فاعل في الاقتصاد المقاوم. هدفنا الاستراتيجي هو تحويل قيمة فاتورة الاستيراد من جيب المزارع الصيني والأمريكي والأسترالي، لتستقر في جيب المزارع اليمني، وذلك عبر تفعيل الجمعيات التعاونية التي تمثل الحاضنة الحقيقية لصغار المنتجين، والرافعة الأساسية للزراعة التعاقدية التي تضمن جودة المنتج ومنافسته».
تفكيك إرث »التجهيل« الممنهج
وفي سياق متصل، يتحدث الإعلامي التنموي أحمد سالم عامر عبدالله، من مديرية باجل، عن الجانب الخفي من المعركة، مشيراً إلى أن التحدي الأكبر يكمن في مواجهة التراكمات السلبية للأنظمة السابقة. ويقول عامر بمرارة ممزوجة بالتحدي: «لقد تعرض شعبنا لعملية تجريف ممنهجة للوعي، حيث سعت قوى الهيمنة عبر أدواتها المحلية إلى ترسيخ فكرة أن اليمن بلد فقير لا يملك مقومات الحياة، دافعة الناس نحو انتظار سلال الغذاء المذلة».
ويرى عامر أن العمل الطوعي اليوم هو «عملية جراحية» لاستعادة الثقة بالذات اليمنية، مؤكداً أن دافعه للانخراط في هذا الميدان هو الظرف الاستثنائي الذي يمر به الوطن. ويضيف: «التطوع على هدى الله هو تفعيلٌ للموارد المعطلة، واستنهاض للقدرات الكامنة. نحن نعمل على توعية الأسر بأن التحول إلى أسر منتجة ليس مستحيلاً، وأن المشاريع الصغيرة والأصغر هي نواة الاقتصاد الصلب. ورسالتنا واضحة أننا لن ننتظر الحلول من الخارج، بل سنصنعها بأيدينا، لنأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع، محققين بذلك استقلالاً سياسياً ناجزاً لا يقبل الارتهان».
منهجية الأنبياء في التنمية
ويلتقط طرف الحديث الفارس والإعلامي التنموي إسماعيل أبكر خضري، من جمعية مديرية اللحية التعاونية، ليربط الواقع العملي بالنماذج التاريخية القرآنية. حيث يشير خضري إلى أن الإعلام المعادي حاول تحويل الشعب اليمني من «أمة منتجة» مرتبطة بأرضها الطيبة، إلى طوابير من المتسولين على أبواب المنظمات الإغاثية.
ويؤكد خضري أن انطلاقته في العمل التنموي هي امتثال لأمر الله بالإحسان، ومحاولة لاستلهام منهجية الأنبياء في الإدارة والتنمية. ويقول خضري موضحاً: «نحن نقتدي بمنهجية (ذي القرنين) الذي لم يعطِ قومه سمكاً، ولم يعطهم مالاً، بل قال لهم (أعينوني بقوة)، مفعّلاً طاقاتهم ومواردهم المتاحة لبناء السد. وكذلك فعل نبي الله يوسف الذي أدار أزمة اقتصادية عالمية بمنهجية التخطيط والادخار والإنتاج». ويتطلع خضري في ختام حديثه إلى أن تثمر جهودهم في «اللحية» وغيرها من المناطق، في خلق أطر إنتاجية وتسويقية متكاملة، تجعل من الجمعيات التعاونية كيانات اقتصادية عملاقة تقود النهضة الزراعية الشاملة.
ثورة التطوع الحقيقية.. الخدمات والتنمية
أما الفارس والإعلامي التنموي حسن يعقوب، من الحديدة، فيقرأ مشهد الخامس من ديسمبر برؤية مستقبلية، معتبراً أن العالم في عام 2025م دشن ثورة خدمية تنموية عالمية، لكن اليمن يمتلك فيها قصب السبق بفضل «المنهجية القرآنية». ويشير يعقوب إلى أن التطوع المرتبط بالله له ديمومة وأثر لا يوفره التطوع العلماني المادي، ويضيف قائلاً: «التطوع القائم على الإيمان يمنحك البصيرة، ويفتح أمامك آفاقاً من التوفيق الإلهي لا تخضع للحسابات المادية الضيقة».
ويركز يعقوب في طرحه على ضرورة «تصحيح المسارات»، موضحاً أن القوى الاستعمارية حاولت عبر عقود غرس مفاهيم مغلوطة تثبط الهمم. ويضيف: «المطلوب منا اليوم هو هندسة المجتمع تنموياً، عبر تمكينه من أدوات الإنتاج، وتعليمه كيف يحول (الممكن والمتاح) إلى مشاريع استراتيجية. نحن لا نوزع مساعدات، بل نبني قدرات، ونشكل مبادرات مجتمعية تعمل وفق آليات منظمة لتجميع الجهود المبعثرة وتوجيهها نحو الأولويات الملحة».
إدارة الأزمات.. تحويل التحدي إلى فرصة
وفي مسار موازٍ، يرى الفارس والإعلامي التنموي ملهم طه أحمد المشرعي، أن الحرب والحصار، رغم قسوتهما، شكّلا فرصة تاريخية لإعادة اكتشاف الذات اليمنية. يؤكد المشرعي أن الاحتفاء باليوم العالمي للتطوع يجب أن يترجم إلى تكريم للمتطوعين بتحفيزهم على المزيد من البذل، مشدداً على أن الإعلامي المتطوع يحمل «رسالة وعي» تهدف لانتشال البلاد من حالة الركود.
ويستخدم المشرعي مصطلحات تنموية دقيقة قائلاً: «نعمل وفق استراتيجية (تحويل التحديات إلى فرص). فالحصار الذي أرادوا به تجويعنا، جعلناه دافعاً لتفجير الطاقات الكامنة. انخراطي في العمل الطوعي ينبع من الشعور بالمسؤولية تجاه هذا الوطن الجريح، وهدفي هو تحريك عجلة التنمية المجتمعية لتعمل بوقود ذاتي لا ينضب». ويشاركه في هذا الطرح زميله ماهر عيسى محمد عبدالله، الذي يضيف بُعداً روحياً، مؤكداً أن «الهوية الإيمانية والثقافة القرآنية» هي الوقود الذي لا ينفد للمتطوع، وهي التي تجعل من «المشاركة المجتمعية» واجباً مقدساً يقرب العبد من ربه، ويحقق للمجتمع منعته وقوته.
إحياء »الموروث التعاوني« اليمني
وفي ختام هذا الطواف الميداني، يضعنا الفارس والإعلامي التنموي حسن داوود عامر، أمام تجربة عملية فريدة، تتمثل في إحياء الموروث الشعبي اليمني في التعاون. حيث يوضح عامر وزملاؤه أن تدريبهم في «أكاديمية بنيان» لم يكن مجرد تلقي معلومات نظرية، بل كان إعادة اكتشاف للجينات الحضارية لليمنيين.
ويقول عامر بحماس: «لقد نجحنا في إحياء عادات وأسلاف يمنية أصيلة كادت تندثر، مثل (الجايش)، و(الغرم)، و(العانة)، و(الفزعة). هذه ليست مجرد كلمات تراثية، بل هي منظومات تكافل اجتماعي متطورة سبقت النظريات الغربية بقرون». ويؤكد أن هذه المبادرات أصبحت اليوم البديل العملي لانتظار الدولة أو المنظمات، حيث يقوم المجتمع بصيانة قنوات السيول، وإصلاح الطرق، ونجدة الملهوف، بجهود ذاتية بحتة.
ويختم المتطوعون حديثهم لـ «الثورة» برسالة جماعية، مفادها أن كل متطوع يغرس شتلة أو يبني مدماكاً هو جندي في «الجبهة الاقتصادية»، وأن المعركة القادمة هي معركة «الرغيف والقرار»، وسلاحها هو الوعي والعمل الدؤوب، وصولاً إلى يمن قوي، عزيز، ومكتفٍ بذاته، يزرع ما يأكل، ويأكل ما يزرع.
هندسة »الإنسان« قبل »البنيان«..
في عمق المشهد التنموي اليمني، وحيث تتكسر أمواج الحرب الاقتصادية على صخرة الصمود المجتمعي، يبرز صوتٌ يضع النقاط على الحروف، ويعيد تعريف مفاهيم البذل والعطاء بعيداً عن قواميس المنظمات التقليدية. هنا، يتحدث رئيس وحدة التطوع بمؤسسة بنيان التنموية، عبدالقادر عبدالله الديلمي، كاشفاً عن «السر الكامن» خلف هذا الحراك المجتمعي المتصاعد، ومفصلاً في الدور الاستراتيجي الذي تلعبه المؤسسة في تحويل «النوايا الطيبة» إلى «مشاريع عملاقة».
ويستهل الديلمي حديثه بتأصيل منهجي عميق، مؤكداً أن فاعلية «التطوع على هدى الله والمشاركة المجتمعية في التنمية» لا تكمن في مجرد تقديم الخدمة، بل في الروحية التي ينطلق منها المتطوع؛ تلك الروحية المستمدة من «الهوية الإيمانية» التي تجعل من خدمة الناس وتحسين معيشتهم ميدان جهادٍ مقدساً، ومساراً للتقرب إلى الله بـ «الإحسان». ويشير الديلمي إلى أن هذه الانطلاقة الإيمانية هي الوقود الذي لا ينضب، وهي التي تمنح العمل الطوعي ديمومته وبركته، بخلاف الدوافع المادية أو الوجاهية التي سرعان ما تخبو أمام أول عقبة.
وعن دور «مؤسسة بنيان التنموية»، يوضح الديلمي أن المؤسسة أخذت على عاتقها مهمة «صناعة القادة» وليس مجرد حشد الأفراد، وذلك عبر برامج تدريبية وتأهيلية مكثفة تُعقد في «أكاديمية بنيان». وهذه البرامج – بحسب الديلمي – لا تكتفي بتلقين الفرسان أبجديات العمل الإداري، بل تغوص بهم في عمق «المنهجيات التنموية» القائمة على المشاركة المجتمعية، وتكسبهم مهارات «تحليل الموارد»، وكيفية اكتشاف «الفرص» من رحم «التحديات». ويضيف الديلمي: «نحن لا نمنح المتطوع سمكة، ولا نعلمه الصيد فحسب، بل نعلمه كيف يصنع السنارة، وكيف ينظم المجتمع ليدير عملية الصيد والإنتاج والتسويق بنفسه».
ويسترسل الديلمي في تفصيل الأثر الميداني لهذه المنهجية، مشيراً إلى أن «فرسان التنمية» الذين تخرجوا من مدرسة بنيان، ينزلون إلى الميدان برؤية ثاقبة، يمتلكون القدرة على استنهاض المجتمعات المحلية، وتحريك المياه الراكدة في القرى والعزل. مهمتهم الأساسية – كما يصفها – هي «تفجير الطاقات الكامنة»، وتوعية أبناء المجتمع بأن الله قد منحهم من النعم والموارد المتاحة في أرضهم ما يكفيهم ويغنيهم عن انتظار الفتات من الخارج، شريطة أن يحسنوا استغلالها وإدارتها ضمن قوالب تعاونية منظمة.
ويشدد الديلمي على أن التدريب الميداني الذي يتلقاه الفرسان يركز على غرس روح «المبادرة»، بحيث يصبح الفارس هو المبادر الأول، والنموذج العملي الذي يقتدي به الناس في الجدية والإخلاص. ويؤكد أن ثمرة هذا البناء المنهجي للإنسان ظهرت جلياً في مئات المبادرات المجتمعية التي شقت الطرقات، وأحيت الأراضي الزراعية، وأعادت تشغيل قنوات الري، بمساهمات مجتمعية خالصة، ودون انتظار ميزانيات حكومية أو منح خارجية.
ويختتم الديلمي رؤيته بعبارات تقطر عزماً ويقيناً، معتبراً أن ما تقوم به وحدة التطوع هو تأسيس لـ «جيش تنموي» رديف للجيش العسكري، قوامه شباب مؤمن واعٍ، سلاحه المعرفة والإرادة، وهدفه بناء يمن قوي مقتدر، يمتلك قراره بامتلاك قوته، ويواجه الحصار بالإنتاج، والعدوان بالبناء، مجسداً بذلك أسمى معاني «الإحسان» الذي يحبه الله ويرضاه لعباده المؤمنين.













































