الهيئة التي تحمل اسم «اللجنة الاستشارية للاستثمار المسؤول اجتماعياً»، ACSRI، التي تنصح جامعة كولومبيا الأمريكية حول الجوانب الأخلاقية لأنشطة الجامعة في ميادين الاستثمارات المختلفة؛ أعلنت رفض الطلبات المقدّمة إلى إدارة الجامعة لوقف التعاون المالي مع المؤسسات الإسرائيلية، والشركات الكبرى الأمريكية والعالمية التي «تنتهك حقوق الإنسان والقانون الدولي في فلسطين»، وتتورط عبر مستويات متنوعة في حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزة

مبررات الرفض لم تكن جديدة بالطبع، حتى إذا كانت اللجنة قد أقامت في نهاية المطاف معادلة ربح وخسارة بين القانون الدولي وقانون البورصة؛ وبين قواعد «الأخلاق» التي يتوجب أن تحكم عملها، مقابل التعاطي بالملايين مع شركات كبرى مثل لوكهيد وبوينغ وميكروسوفت وأمازون وألفابيت. وإذا كانت اجتهادات اللجنة غير مُلزمة قانونياً للجامعة، بمعنى أنها تشير وتقترح فقط؛ فإنّ خلاصاتها تتخذ على الفور صفة الإلزام غير المباشر حين تتكئ عليها غالبية الجهات المانحة، وخاصة تلك المناصرة لدولة الاحتلال وحاملة فزاعة العداء للسامية.

وكما هو معروف، كانت هذه الجامعة تحديداً، ومعها عشرات الجامعات الأمريكية الكبرى، مسرحاً لاحتجاجات طلابية عارمة، واعتصامات داخل الحرم الجامعي أو في محيطه، احتجاجاً على حرب الإبادة الإسرائيلية وتضامناً مع الشعب الفلسطيني. وبدت كولومبيا محطة انعطاف فاصلة في المزاج الاحتجاجي الطلابي والشبابي خصوصاً، وشرائح متعددة التنوّع داخل الرأي العام الأمريكي إجمالاً؛ لاعتبارات ذات صلة بالتاريخ المميز لهذه الجامعة بصدد القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية ذات الحساسية، ومناهضة تيارات اليمين المحافظ أو المتشدد أو العنصري.

والجامعة نموذج راديكالي ضمن حيثيات من طراز آخر، يذهب إلى عمق التاريخ الأمريكي الحديث في إطار التنقيب عن ماضٍ حمّال منعكسات على الحاضر، وفي الآن ذاته غير منقطع الصلة عن القضية الفلسطينية. ولعلّ أحدث الأمثلة كان «الطوفان» الطلابي الذي اقتحم مكتبة بتلر الجامعية، التي تكرّم نيكولاس موراي بتلر رئيس الجامعة بين 1902 وحتى 1945، رغم أنه كان متعاطفاً مع النازية واستقبل سفراء نازيين في حرم الجامعة. ولقد عمدت أفواج الطلاب إلى تغيير الاسم إلى «مكتبة باسل الأعرج»، المقاوم والناشط والصيدلاني الفلسطيني الذي اغتالته قوات الاحتلال الإسرائيلي في ربيع 2017.

كذلك، واستطراداً، لم يكن مفاجئاً أن تتحوّل كولومبيا إلى مختبر تُطبّق فيه أفانين الضغوط المالية، الخاصة والحكومية، على الجامعات التي تشهد أنشطة احتجاج طلابية واسعة النطاق ونوعية الشكل والمحتوى؛ كما في تهديد الجامعة بمواصلة اقتطاع 400 مليون دولار من التمويل الفدرالي، إذا لم تمتثل الإدارة لاشتراطات تقيّد حريات التعبير والتجمّع والاحتجاج داخل الحرم الجامعي. ولم يكنّ أقلّ مفاجأة أن ترضخ الجامعة، في كثير وليس في قليل، وأن تنقلب بالفعل إلى أمثولة أولى في سيرورة سوف تشمل معظم الجامعات الأرقى والأعرق.

المثال، الأحدث هنا أيضاً، هو الدعوى القضائية التي رفعها رامسي وودكوك على رئاسة جامعة كنتوكي وعلى وزيرة التعليم، بعد أن جرى التحقيق معه حول كتابات اعتُبرت «تصفووية» ضدّ دولة الاحتلال، وجرى بالتالي فصله من كلية الحقوق حيث كان يدرّس. وفي الشكوى ساجل الرجل بأنّ آراءه المشار إليها يحميها التعديل الأوّل الدستوري لجهة حرية الرأي والتعبير، لأنه إنما كتب يحلل موقع دولة الاحتلال من هذه الزوايا: أنها تجمع بين ارتكاب الإبادة وانتهاك القانون الدولي، وممارسة العنصرية والأبارتيد، وأنها «مستوطنة أمريكية» استعمارية. وكانت مقولة وودكوك الأشدّ استفزازاً للجامعة وسلطات التعليم الفدرالية هي القائلة بأنّ «الصهيونية ليست ممارسة عنصرية فقط، بل هي استعمارية أيضاً، والحلّ معها ليس المطالبة بالمساواة، بل التحرر من الاستعمار».

وإلى جانب كونها أمثولة، فإنّ جامعة كولومبيا لا تكفّ عن إعادة فتح المجلدات، في تاريخ أمريكي لا تطويه الأزمنة.