اخبار تونس
موقع كل يوم -اندبندنت عربية
نشر بتاريخ: ٨ حزيران ٢٠٢٥
يكابدون المصاعب يومياً بسبب عدم وجود رعاية أو توافر بنية تحتية تناسبهم
السجن تجربة صعبة وقاسية لما تخلفه من آثار نفسية على الشخص وعلى عائلته، وتكون المعاناة مضاعفة عندما يكون السجين من الفئات الهشة، كذوي الإعاقة الذين يكابدون المصاعب في الحياة اليومية، فما بالك بالحياة داخل السجن الذي تحكمه قواعد خاصة وعلاقات معقدة بين نزلائه؟
في السجن يمكنك أن تتخيل سجيناً يكابد بصورة يومية للصعود إلى سريره، وهو من ذوي الإعاقة، ويستعين بسجين ليوصله إلى مكانه، بينما يتحسس سجين آخر كفيف كل شيء في غرفة السجن، ويصطدم ببقية السجناء عند المشي، ما يضفي على السجن قتامة مضاعفة.
لا أحد يهتم
'لا توجد ممرات خاصة بنا كذوي إعاقة، ولا تتوفر المرافق الصحية الملائمة لحاجاتنا، ويرأف بنا أحياناً بعض المساجين، فيساعدوننا في قضاء شؤوننا، بينما لا يهتم الأعوان بحالنا، وأحياناً يتم الزج بنا في غرف مع مجرمين خطرين بلا حماية، لا أحد يهتم بنا'، هكذا تحدث سمير الواعر (كفيف) عن تجربته في أحد السجون التونسية التي تعاني الاكتظاظ وتواجه تحدي التعامل مع ذوي الإعاقة الذين يُحكم عليهم في قضايا مختلفة، بينما تفتقر السجون إلى البنية التحتية المناسبة لهذه الفئة.
بنبرة حزينة تختزل حجم المعاناة التي يواجهها الواعر وغيره من ذوي الإعاقة في الصراع مع متطلبات الحياة اليومية، فما بالك عندما يجدون أنفسهم في السجون المحكومة بالقوة والصراع بين مختلف السجناء، فيهم من يرأف لحالهم ويقدم لهم المساعدة، وفيهم من لا يعيرهم أي اهتمام.
'الكدس' أن تجدك بين مجرمين خطرين
يضيف الواعر 'السجن تجربة قاسية ومهينة أحياناً، هو فضاء يفتقر إلى المرافق الصحية التي تناسب ذوي الإعاقة، كما أن غالب السجون بها سلالم لا تناسب ذوي الإعاقة الذين يستخدمون كراسي متحركة'، لافتاً إلى أنه من 'أصعب التجارب أن توضع في ’الكدس‘ (مصطلح محلي في السجن) مع بقية المساجين'.
وتابع المتحدث قوله 'تعرضت لصعوبات كبيرة مع عدد من المساجين المتشددين، ولا توجد غرف خاصة بذوي الإعاقة، بل نوضع مع بقية السجناء، وأحياناً مع بعض العناصر الإجرامية الخطرة، ولولا أني شديد البأس لتم التنكيل بي في السجن، وعلى رغم ذلك كنت أدفع لبعض المساجين المال مقابل مساعدتي على قضاء شؤوني الخاصة كنشر الغسيل، السجن لا يفرق بين شخص سوي وآخر من ذوي الإعاقة'.
ويقول الواعر إن 'أعوان السجن يحترمونني لأنني لا أتعمد إثارة المشكلات في السجن، كنت أعول كثيراً على نفسي في الذهاب إلى الحمام أو الاغتسال في غالب الأحيان باستخدام الماء البارد'.
وفي مركز الإيقاف وأثناء التحقيق، يشير سمير الواعر إلى أنه 'لم يتمكن من الاطلاع على محضر البحث'، لافتاً إلى 'وجود تلاعب أحياناً في بعض القضايا التي يكون فيها ذوو الإعاقة طرفاً'، قائلاً 'المشكل في الفساد الذي يضاعف معاناة المعاقين'.
ودعا المتحدث إلى 'ضمان الحق في العدالة لذوي الإعاقة، من خلال فرض حضور الخبراء في التعامل مع ذوي الإعاقة، بخاصة الكفيف والأصم، وتغيير جذري للعقلية المجتمعية السائدة، والتي تعد ذوي الإعاقة في حاجة دوماً إلى المساعدة، بينما في الواقع يمكنهم التعويل على أنفسهم'.
التنمر والابتزاز المادي
من جهتها تحكي مفيدة (اسم مستعار)، وهي من ذوات الإعاقة، عن دخولها سجن النساء بسبب شيك من دون رصيد، وقضت ثلاثة أشهر فيه، واعتبرت أنها من أقسى التجارب التي عاشتها، وتقول 'شعرت بضعفي الذي كنت أتجاوزه في حياتي اليومية، من خلال عملي، وتحصيل قوت يومي بعرق جبيني، قرأت في عيون السجينات الرأفة، كما تعرضت للتنمر حيناً، وللإهانة أحياناً أخرى'.
وتضيف مفيدة 'السجن تجربة قاسية تركت ندوباً غائرة في حياتي، عائلتي أيضاً تأثرت بهذه التجربة، وأمي تعاني إلى اليوم آثارها، ومجتمعنا لا يرحم، بخاصة عندما تدخل امرأة السجن لأي سبب كان'، وتضيف 'علينا أن نعمل جميعاً مجتمعاً ومنظمات ومؤسسات الدولة على تغيير هذا الواقع، بالنسبة إلى ذوي الإعاقة، من خلال ملاءمة البنية التحتية في السجون، لتتناسب مع هذه الفئة الهشة'.
وتردف المتحدثة 'تقوم إحدى السجينات بالعناية بي مقابل أجرة أسبوعية بـ50 ديناراً (17 دولاراً) وأحياناً تتخاصم السجينات فيما بينهن من أجل خدمتي للحصول على المال'.
مفيدة تشتري سلامتها الجسدية، وتضمن وصولها إلى المرافق الصحية في السجن بمقابل، وتضطر أحياناً للذهاب إلى الحمام في ساعة متأخرة من الليل ولا تجد من يساعدها.
140 سجيناً من ذوي الإعاقة
وأمام غياب البنية التحتية الملائمة لهذه الفئة داخل السجون، تدعو منظمات المجتمع المدني إلى ضرورة تنزيل روح الدستور الضامن للحقوق والحريات في نصوص تشريعية واضحة تضمن كرامة ذوي الإعاقة.
من جهته يؤكد رئيس جمعية 'إبصار' المتخصصة في شؤون ذوي الإعاقة البصرية محمد المنصوري في تصريح لـ'اندبندنت عربية'، أن 'مسار العدالة بالنسبة إلى ذوي الإعاقة محفوف بالصعوبات بدءاً بإجراءات المحاكمة وصولاً إلى مراكز الإيقاف والسجن، ولكل مرحلة صعوباتها الخاصة، فاستنطاق متهم من ذوي الإعاقة يتطلب إجراءات خاصة وحضور خبير في لغة الإشارة قادر على ترجمة ما يريد الأصم إيصاله، كما أن الكفيف لا يمكنه قراءة محضر البحث بكل تفاصيله، بينما تحول البنية التحتية داخل المحاكم وفي السجون دون وصول ذوي الإعاقة العضوية بسهولة إلى قاعات المحاكم وبقية المكاتب لمتابعة ملفاتهم'.
ويضيف المنصوري أن 'السجون لا تتوفر بها بنية تحتية ملائمة لذوي الإعاقة، كالأسرَّة الصحية الخاصة بهم، أو بيوت الاستحمام التي تتماشى وبنيتهم الجسدية'، مشيراً إلى أنه 'إزاء الضغط على المحاكم لا يجد أحياناً مترجم لغة الإشارة الوقت الكافي لفهم وترجمة ما يريد المتهم الأصم قوله أمام المحكمة من أجل تحقيق العدالة والدفاع عن نفسه'.
ويلفت رئيس الجمعية إلى أن 'بعض المساجين يعاملون ذوي الإعاقة في السجن معاملة حسنة، ويعدون ذلك نوعاً من التكفير عما ارتكبوه من أخطاء أو من جرائم خارج السجن'، مشيراً إلى أن 'آخر الإحصاءات في 2023 تؤكد وجود نحو 140 من ذوي الإعاقة في سجون تونس'.
ويدعو المنصوري إلى 'احترام القوانين والمواثيق الدولية في هذا المجال، ووضع التشريعات الضرورية التي تلزم مؤسسات الدولة على تغيير البنية التحتية في السجون لتتلاءم مع بعض الفئات الهشة، والعمل على تكوين الإطارات وأعوان السجون ليحسنوا التعامل مع ذوي الإعاقة'.
ويشدد رئيس جمعية 'إبصار' على أن غالب السجناء من ذوي الإعاقة يعانون أمراضاً مزمنة، ومن الضروري توفير الرعاية الصحية لهم، علاوة على تأهيلهم، وتمكينهم من الكتب بطريقة برايل والكتب الصوتية.
السجن بيئة قهر مضاعفة
وكشف تقرير رصد السجون في تونس (2022 - 2025) الذي أصدرته الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان عن أن 'الأشخاص ذوي الإعاقة يعانون الهشاشة في مراكز الاحتجاز والتوقيف، في ظل غياب الوسائل اللازمة لتسهيل حركتهم وتلبية حاجاتهم الخاصة، كما يواجهون انتهاكاً صارخاً للضمانات القانونية والإنسانية المنصوص عليها في التشريعات الوطنية والمعايير الدولية'.
ويأتي تقرير الرابطة إثر زيارات ميدانية استمرت ثلاث سنوات، وأظهر أن 'السجون التونسية لا توفر بنية تحتية ملائمة لإيواء الأشخاص ذوي الإعاقة، مما يحول السجن بالنسبة إليهم إلى بيئة قهر مضاعفة، ولا تتوفر غالباً التجهيزات الكافية على غرار الكراسي المتحركة أو الأسرة الطبية وغيرها، كما لا يجري الفصل بين الأشخاص المعاقين وبقية السجناء، باستثناء بعض السجون'.
تنزيل روح الدستور في القوانين
وينص قانون حماية الأشخاص المعاقين في بنده الرابع المتعلق بتهيئة المحيط وتيسير التنقل والاتصال على أن 'تعمل الدولة والجماعات المحلية والمنشآت والمؤسسات العمومية والخاصة على تهيئة المحيط وملاءمة وسائل الاتصال وتيسير تنقل الأشخاص المعاقين ووصولهم إلى الخدمات'.
كما ينص دستور 2022 في فصله الـ54 على أن 'الدولة تحمي الأشخاص ذوي الإعاقة من كل تمييز وتتخذ كل التدابير اللازمة لضمان اندماجهم الكامل في المجتمع'، إلا أن الواقع يحتاج إلى إرادة قوية وقوانين ترتيبية تجعله أمراً واقعاً وملموساً في السجون وفي المحاكم، حيث تنتهك أحياناً حقوق هذه الفئات الهشة.
ويؤكد المتخصص في القانون العام الصغير الزكراوي أن 'السجن غير ملائم لشخص لا يشكو من أي مشكل بدني أو ذهني، فما بالك بفئات هشة، كذوي الإعاقة'.
وبخصوص المسار القضائي يرى الزكراوي أن 'ذوي الإعاقة يحظون بإجراءات خاصة أثناء المحاكمة، من قبل هيئة المحكمة، التي تستنجد بخبراء لغة الإشارة بالنسبة إلى الصم أو بأحد أقارب الكفيف عندما يكون محل ملاحقة قضائية حتى يتم إنصافه من خلال اطلاعه على محضر البحث لدى حاكم التحقيق قبل التوقيع'.
ويشير الزكراوي إلى أن 'المحكمة تتواصل مع المنظمات والجمعيات التي تنشط في مجال ذوي الإعاقة، وتستعين بخبراتهم في استنطاق المتهم عندما يكون من الصم، باعتماد لغة الإشارة حتى تفهم هيئة المحكمة ما يريد المتهم تبليغه'، داعياً إلى 'تأطير أعوان السجون وتكوينهم في مجال التعامل مع هذه الفئة، علاوة على تأهيل البنية التحتية السجنية حتى تتلاءم وخصوصياتهم'.
وبينما لم نتمكن من تحصيل رد من الهيئة العامة للسجون حول مدى توفر بنية تحتية سجنية ملائمة لذوي الإعاقة، إلا أن البيانات المنشورة على موقع الهيئة تشير إلى أنه تم 'إحداث مصلحة متخصصة بالخدمات الاجتماعية الموجهة للفئات ذات الحاجات الخصوصية في صلب الإدارة العامة لشؤون المودعين تعمل على إبرام اتفاقات تعاون مع الهياكل العمومية والخاصة والمجتمع المدني، وتسهم في إرساء ومتابعة تنفيذ البرامج الاجتماعية الموجهة لهذه الفئات، وذلك تنفيذاً لمقتضيات الأمر الحكومي عدد 39 لسنة 2020.
وصادقت تونس على اتفاق حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة والبروتوكول الاختياري المتعلق بهذا الاتفاق، وتدعو المذكرات الإدارية في هذا الشأن إدارة السجون إلى إيواء الأشخاص المودعين من ذوي الإعاقة الحركية في غرف مخصصة للمرضى من المساجين، بغض النظر عن تصنيفهم وطبيعة الجريمة المرتكبة.