اخبار تونس
موقع كل يوم -جريدة الشروق التونسية
نشر بتاريخ: ١٦ تموز ٢٠٢٥
لم يكن حب الموسيقى ما جمع العرضين 'رَست' والسارة ومجموعتها 'النوباتونز'. وإنما كانت هناك ذاكرة مشتركة بينهما للمهجر والاغتراب والبعد عن الوطن. وقد اجتمع هذان العرضان في سهرة واحدة أمس الثلاثاء 15 جويلية ضمن فعاليات الدورة 59 لمهرجان الحمامات الدولي (11 جويلية - 13 أوت 2025) بحضور جمهور نوعي عاشق للألوان الموسيقية التي تعبر عن الحنين إلى الأوطان وتروي وجع البعد والاغتراب.
افتتحت السهرة بعرض امتزج فيه الطرب العربي بالموسيقى الإلكترونية قدمه الثنائي 'رَست'؛ اللبنانية بترا الحاوي والسوري هاني مانجا. وقد اعتمد هذا الثنائي على إحياء الألحان العربية الكلاسيكية من خلال إعادة توزيعها على إيقاعات الموسيقى الالكترونية الغربية ما منح الأداء طابعا معاصرا دون أن يفقده جذوره وهويته.
وكان الألبوم الأخير 'مسار' لهذا الثنائي حاضرا بقوة في العرض، وهو عمل مستلهم من مسيرة المرأة العربية بالتعاون مع الشاعرة جنى سلوم. وقد قُدّمت القصائد في قالب غنائي معاصر يستبطن الوجع الاجتماعي والذاتي معا.
وعبّر الثنائي اللبناني-السوري 'رَست' خلال الندوة الصحفية التي تلت العرض عن سعادتهما بالمشاركة في مهرجان الحمامات الدولي واعتبرا أن الوقوف على مسرح عريق يحمل في طياته إرثا فنيا يعدّ شرفا ومسؤولية في آن واحد.
الجمهور التونسي ذوّاق للفن
وقالت المغنية بترا الحاوي إن التفاعل الجماهيري لعب دورا حاسما في نجاح العرض، مؤكدة أن التواصل البصري مع الحضور كان له أثر بالغ في أدائها على المسرح. وأضافت: 'عندما أتمكن من النظر في عيون الجمهور وأشعر بانخراطهم بشكل مباشر في العرض، أعلم أن الأداء يخرج من أعماقي'. وتابعت قولها إن 'الجمهور التونسي كان منفتحا ومتفاعلا إلى حد كبير وهو ذواق للفن'.
وتحدثت أيضا عن تجربة كتابة وأداء أغنية 'دياسبورا'، مشيرة إلى أنها تجسد مشاعر الغربة والبعد النفسي التي عاشتها شخصيا أثناء تنقلها بين البلدان. ووصفت هذه الأغنية بأنها 'عملية تطهير نفسي' عبّرت من خلالها عن أوجاع الاغتراب والانفصال عن بلدها بسبب الحرب.
وأضافت: 'أدركت من خلال هذه التجربة معنى الاغتراب الحقيقي كمسافة جغرافية وكحالة من التشرّد الوجداني. وقد زادني ذلك تمسكا بلغتي العربية ورغبتي في التعبير الفني بلغتنا وموروثنا'.
من جهته، أشار هاني مانجا إلى أن الحفل شكل لحظة خاصة في مسيرتهما الفنية، معتبرا أن الجمهور التونسي أعاد إليهما الإحساس برسالة الفن وجدواه وأن الحضور أشعرهما وكأنهما في ديارهما سواء في لبنان أو سوريا رغم ألم الاغتراب.
وأكد مانجا أن مشروع 'رَست' يعمل على تقديم موسيقى عربية أصلية بروح معاصرة، لافتا إلى أن الألبوم الأخير 'مسار'، جاء بالتعاون مع الشاعرة جنى سلّوم، ويتناول مسيرة المرأة العربية من خلال خمسة نصوص فصيحة أعيد تلحينها وتوزيعها بأسلوب إلكتروني معاصر.
وحول الصعوبات المتعلقة بإعادة إحياء أغنيات عربية كلاسيكية ومنها أغاني كوكب الشرق أم كلثوم، أوضح أن 'الفريق واجه إشكاليات تتعلق بحقوق الملكية الفكرية حيث تم التواصل مع الجهات المعنية دون الحصول على رد رسمي، مما دفعهما إلى التركيز أكثر على الإنتاج الموسيقي الخاص بدلا من إعادة التوزيع فقط، بحسب تعبيره.
- السارة والنوباتونز: أغاني الهجرة والنوستالجيا -
وفي الجزء الثاني من السهرة، أضاءت السارة أيقونة الصوت السوداني في المهجر الركح برفقة فرقتها النوباتونز، في عرض حمل روح أفريقيا ونبض النوبة ولامس في آن أوجاع الاغتراب وتوق العودة.
وأعادت السارة القادمة من السودان تعريف الموسيقى التراثية عبر أنماط معاصرة مثل الهيب هوب والتكنو. كما أدرجت في أعمالها عناصر من الثقافة السودانية كـ 'أغنيات البنات' وأهازيج الهجرة كما في ألبوماتها الغنائية. وقد تجلى ذلك بوضوح من خلال باقة من الأغاني التي اختارتها بعناية فائقة لتقديمها على ركح الحمامات على غرار 'سلام نوبيا' و'عيان تعبان' و'مين أنا' و'حبيبي تعال'. وقد كان لأغنيتها 'سوداني' حضور مميز خاصة باستخدامها لآلة 'lap steel guitar' التي قالت عنها السارة إن الموسيقى لوحة تبحث فيها عن النسيج وعن الملمس، لتضيف أن العود أيضا آلة رائعة لكنها ليست الوحيدة، معتبرة أن الستيل غيتار جزء من المحادثة الموسيقية في شرق أفريقيا.
وتحدثت الفنانة السودانية 'السارة' في الندوة الصحفية التي تلت العرض عن خصوصية تجربتها الموسيقية، مؤكدة أن مشروعها مع فرقة 'النوباتونز' يقوم على إعادة تقديم التراث السوداني والنوبي ضمن أطر معاصرة كالتكنو والهيب هوب سعيا لإبراز الهوية الثقافية من منظور المهاجر.
وفي ردها على سؤال حول استخدام آلات موسيقية غير تقليدية، قالت السارة إن آلة الغيتار لم تكن جزءا من تكوينها الموسيقي، لكنها استخدمت آلة Lap Steel Guitar في ألبومها الأخير لما تحمله من ملمس صوتي قريب من التراث الشرقي والإفريقي على حد سواء.
وأضافت أن الموسيقى بالنسبة إليها مثل اللوحة الفنية، تبحث فيها عن خامات صوتية محددة تتلاءم مع القصة التي ترويها وليس الأمر تفضيلا لآلة على أخرى وإنما هو بحث عن نسيج صوتي معين.
وعن علاقتها بالمنفى والهوية، قالت السارة إن الاغتراب ليس تجربة رفاهية وإنما لحظة جذرية تعيد تشكيل الوعي والانتماء. وشددت على أن الغربة تجعل الإنسان يرى ذاته وموطنه من زاوية مختلفة.
وأشارت إلى أن الحنين إلى الوطن يتحول في أحيان كثيرة إلى ما يشبه 'الهيروين العاطفي' إذ تتجمد الذكريات في لحظة مثالية يصعب استعادتها، قائلة: 'عندما تحاول العودة تدرك أن لا المكان هو نفسه ولا الناس كما كانوا. وهنا تبدأ عملية بناء بيت رمزي جديد من صوتك وطعامك وذاكرتك'.
وكان جمهور الحمامات في هذه السهرة طرفا في المعادلة الإبداعية. فمن أول مقطع عزفه الثنائي رَست حتى آخر نغمة أدتها السارة ومجموعتها النوباتونز، ظلّ الحضور في تفاعل حي بين التصفيق والترديد الجماعي للأغاني وكأنه يعبر عن مؤازرته اللامحدودة مع هؤلاء الفنانين في وجعهم الإنساني بعيدا أوطانهم.
وللتذكير، سيكون جمهور الفن الرابع على موعد، في سهرة اليوم الأربعاء 16 جويلية، مع مسرحية 'أم البلدان' وهي شراكة فنية بين الكاتب الكبير عز الدين المدني و المخرج حافظ خليفة في ثالث تعاون بينهما بعد 'رسائل الحرية' و'عزيزة عثمانة'. ويتناول العمل فترة حكم مؤسس الدولة الحفصية أبو زكرياء الحفصي في القرن الثالث عشر، مقدّمة تونس كأرض الحضارات وراعية للعدالة والابتكار.