اخبار تونس
موقع كل يوم -جريدة الشروق التونسية
نشر بتاريخ: ١٢ أب ٢٠٢٥
يحتفل التونسيون، غدا الأربعاء بالعيد الوطني للمرأة ، وهي مناسبة تجدد التأكيد على المكانة المحورية التي تحتلها المرأة في المجتمع، وتُبرز التزام الدولة التونسية بحماية حقوقها وتعزيز مكتسباتها.
ويكتسي هذا اليوم رمزية خاصة، إذ يُستحضر خلاله الدور المفصلي لمجلة الأحوال الشخصية، التي شكّلت منذ إصدارها عام 1956 حجر الزاوية في بناء منظومة قانونية واجتماعية حديثة ورائدة تحمي المرأة وتكرّس رؤى وطنية إصلاحية رائدة.
مجلة الاحوال الشخصية ما زالت في صدارة النقاشات الوطنية
ورغم مرور ما يزيد عن ستة عقود على صدورها، لا تزال المجلة موضوع جدل ونقاش مستمر، تتجاذبها رؤى متناقضة بين من يعتبرها مكسبا وطنيا يجب تحصينه، ومن يحاول توظيفها إيديولوجيا، سواء بطرح مقولات تغريبية تختزلها في مطلب المساواة في الإرث، أو بمقاربات محافظة تُقصي الاجتهاد وتُغلق باب التطوير.
وعقب ثورة 17 ديسمبر 2010، عادت المجلة إلى صدارة النقاش العام، وسط تجاذبات حادة بين دعاة المساواة المطلقة، وبين من يتمسك برؤية إصلاحية وطنية تراعي الخصوصيات الدينية والثقافية. وغالبا ما تجاهلت هذه السجالات البعد التاريخي العميق للمجلة، بوصفها نتاج مسار فكري وتدرج قانوني لم يكن الغرض منه الصدام مع الشريعة، بل تقنينها في إطار عقلاني وتقدمي.
فمجلة الأحوال الشخصية لم تنشأ خارج السياق الثقافي والديني للمجتمع التونسي، بل كانت تتويجًا لمسار إصلاحي طويل، بدأ في القرن التاسع عشر، وشهد محطات بارزة على غرار 'لائحة الأحكام الشرعية' التي أعدها شيخ الإسلام المالكي ووزير العدل محمد العزيز جعيط عام 1948.
وقد كان الهدف من هذه اللائحة توحيد المرجعيات بين المذهبين المالكي والحنفي، وتقديم صيغة قانونية عصرية لتنظيم القضاء الشرعي دون قطيعة مع أصوله. وأصبحت لاحقًا أساسًا لمجلة الأحوال الشخصية التي صيغت عام 1956، وفق ما أكده وزير العدل آنذاك أحمد المستيري، الذي اعتبر عمله امتدادًا لمشروع جعيط.
ويؤكد هذا المسار الممتد، من تنظيم القضاء في عهد الحماية، إلى لائحة جعيط، ثم إلى صدور المجلة، وصولًا إلى مرحلة ما بعد دستور 25 جويلية 2022، أن مجلة الأحوال الشخصية لم تأتِ لنسف الفقه الإسلامي، بل لتقنينه وتأطيره ضمن منظور إصلاحي جامع بين الاجتهاد الفقهي، والرؤية الوطنية، والفكر التجديدي الذي حمله رموز وطنية على غرار الطاهر الحداد.
حقوق المراة تبدأ بتمكينها اقتصادية واجتماعيا
وفي هذا السياق، تبنى رئيس الجمهورية قيس سعيّد منذ توليه السلطة موقفًا يعكس فهمًا أصيلًا لمضامين مجلة الأحوال الشخصية، حيث لم يتعامل معها كأداة للمزايدة السياسية، بل كرافعة من روافع بناء الدولة الوطنية الحديثة. وأكد في أكثر من مناسبة انسجام المجلة مع روح الشريعة الإسلامية، خاصة في ما يتعلق بنظام المواريث القائم على مبدأ العدل، لا على المساواة الشكلية.
ورفض الرئيس سعيّد اختزال حقوق المرأة في نقطة خلافية واحدة، معتبرًا أن الكرامة الحقيقية للمرأة تبدأ من تمكينها اقتصاديا واجتماعيا، وأن الجدل حول المساواة في الإرث خرج عن سياقه الأصلي ليُستغل في معارك سياسية لا تخدم قضايا المرأة الحقيقية.
وترجمت هذه الرؤية في جملة من السياسات والإجراءات العملية، أبرزها 'قانون عطلة الأمومة رقم 44 لسنة 2024'، الذي ساوى بين القطاعين العام والخاص في إجازة الأمومة، مانحًا المرأة 15 يومًا قبل الولادة، وثلاثة أشهر بعدها، قابلة للتمديد إلى أربعة أشهر في بعض الحالات، مع ضمان راحة للرضاعة، والحماية من الطرد، والحفاظ على الحقوق المهنية كاملة.
كما تم إقرار إجراءات داعمة للتمكين الاقتصادي للمرأة، لاسيما في الجهات الداخلية، عبر تمويل المشاريع الصغرى، وتبسيط الإجراءات الإدارية، وتوفير امتيازات لتشجيع المبادرات النسائية.
وقد أسفر البرنامج الوطني لريادة الأعمال النسائية والاستثمار 'رائدات' عن تأسيس حوالي 6000 مؤسسة نسائية وفرت أكثر من 12 ألف موطن شغل.
وعلى الصعيد التعليمي، تُظهر المؤشرات الدولية تقدّم تونس في تمكين المرأة في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات (STEM)، حيث تمثل الطالبات نسبة 43.3%في هذه التخصصات، ما يجعل تونس الأولى عالميًا، والثانية من حيث نسبة النساء الحاصلات على شهادات جامعية فيها.
كما أظهرت الإحصائيات الوطنية تفوق النساء في التخصصات العلمية، حيث يشكلن 70.4% من الطلبة في الطب، و56.3% في الهندسة، بينما تبلغ نسبة الحاصلات على الدكتوراه 62%، ومعدلات التخرج 70%.
وتتواصل الإصلاحات التشريعية والاجتماعية الرامية إلى تعزيز مكانة المرأة، من خلال دعم ثقافة المبادرة وتشجيع ريادة الأعمال النسائية، وخاصة في المناطق الريفية والمحرومة.
صعوبات تحول دون تحقيق المساواة الفعلية
ورغم التقدّم المحرز في تعزيز مكانة المرأة تشريعيًا ومجتمعيًا، فإن العديد من المنظمات النسوية ترى ان العديد من التحديات ما زالت تقف حائلًا دون تحقيق المساواة الفعلية، خاصة في ما يتعلّق بالمشاركة الاقتصادية وموقع المرأة في سوق الشغل.
وتُظهر الإحصائيات الوطنية أن نسبة مشاركة النساء في النشاط الاقتصادي لا تتجاوز 28 بالمائة، مع تركّز عمل النساء في قطاعات غير مهيكلة أو منخفضة الأجر، ما يُضعف من فرص تحقيق استقلالية اقتصادية حقيقية. كما تُسجَّل نسبة بطالة مرتفعة في صفوف النساء، تصل إلى حوالي 22 بالمائة، وترتفع إلى أكثر من 38 بالمائة لدى حاملات الشهادات العليا، ما يعكس مفارقة حادة بين التكوين الأكاديمي والاندماج الفعلي في سوق العمل.
إضافة إلى ذلك، تواجه النساء صعوبات في الوصول إلى مواقع القرار الإداري والسياسي، رغم تفوّقهن في مجالات التعليم والتكوين.
فرهان المرحلة المقبلة لا يقتصر فقط على تعزيز الترسانة القانونية، بل يتطلب تفعيلها على أرض الواقع، وتغيير العقليات، وتوفير بيئة اقتصادية واجتماعية تُمكّن المرأة من أداء دورها الكامل دون قيود أو تمييز.
ولئن وفرت القوانين التونسية، ولئن إطارا تشريعيا متقدما لضمان حقوق المرأة، فإن تحقيق المساواة الفعلية بين الجنسين يتطلب تغييرا ثقافيًا واجتماعيًا مستمرًا، إذ يظل التحدي الأكبر في تجاوز الممارسات التقليدية والثقافية التي تحد من حرية المرأة وتحقيق تكافؤ الفرص في جميع المجالات.