اخبار السعودية
موقع كل يوم -جريدة الرياض
نشر بتاريخ: ٢٦ أيار ٢٠٢٥
خالد بن علي المطرفي
التحول الرقمي في القطاع المالي لا يُقاس فقط بالأدوات التقنية، بل بالأفراد القادرين على استيعابها وتطويعها، والمملكة اليوم، من خلال الأكاديمية المالية، ترسم ملامح جديدة لإدارة رأس المال البشري، تجعل من المهارة عملة المستقبل، ومن التعلم المستمر مسارًا وطنيًا لا خيارًا فرديًا..
في مشهد اقتصادي يتسارع فيه التحول الرقمي، ويتزايد فيه الاعتماد على الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة، لم يعد بالإمكان النظر إلى المهارات المالية التقليدية بوصفها أدوات كافية لضمان الاستمرارية والتنافسية، وفي هذا السياق، يأتي التقرير الاستراتيجي الجديد الصادر عن الأكاديمية المالية السعودية بعنوان «تمكين القطاع المالي لمواكبة التحولات المستقبلية»، ليقدم قراءة دقيقة للتحديات المقبلة، ويؤسس لرؤية وطنية تُعيد تعريف ما يعنيه «التمكين المالي» في ظل الثورة الرقمية.
وفقًا للتقرير، فإن نحو 40 % من المهارات الحالية في القطاع المالي في المملكة تحتاج إلى إعادة تأهيل بحلول نهاية هذا العقد، ما يمثل دعوة واضحة لتجاوز النموذج الوظيفي التقليدي والانتقال نحو نموذج مرن، يستند إلى المهارات، وليس إلى المسميات الوظيفية، وما أراه أن هذه النسبة ليست رقمًا اعتياديًا ورد في التقرير، بل مؤشر على عمق التحولات المتوقعة في بيئة الأعمال، وضرورة الاستعداد لها بخطط شاملة تُعطي الأولوية لرأس المال البشري.
يشير التقرير إلى أن المهارات التقنية مثل تحليل البيانات، والأمن السيبراني، والتمويل المستدام أصبحت من الضرورات الجوهرية للقوى العاملة في القطاع المالي، وهو تحول بنيوي في طبيعة المهارات المطلوبة يعكس تغيرًا في أولويات القطاع ذاته، ففي عالمنا المعاصر، لم يعد كافيًا أن يمتلك الموظف المالي معرفة بالأنظمة المحاسبية أو التشريعات التنظيمية، بل بات لزامًا عليه أن يفهم الخوارزميات، ويحلل بيانات العملاء، ويتفاعل مع تقنيات تعلم الآلة والذكاء الاصطناعي.
هذا التوجه تؤكده الأرقام، فـ 84 % من المؤسسات المالية تتوقع أن تلعب تقنيات الذكاء الاصطناعي ومعالجة البيانات دورًا محوريًا في إعادة تشكيل نماذج الأعمال، بينما يرى 63 % من قادة الأعمال في المملكة أن المعرفة التقنية ستكون المهارة الأهم لعام 2025، مقارنة بـ 51 % فقط على النطاق العالمي، وتُبرز هذه الفجوة الإيجابية وعيًا وطنيًا متقدمًا بطبيعة التحول الرقمي، وتؤكد أن السعودية، تسابق الزمن في استشراف المتغيرات المستقبلية.
من أبرز ما ورد في التقرير، هو التأكيد على اعتماد نهج يرتكز على المهارات عوضا عن المسميات الوظيفية، وهو ما يُشكل نقلة نوعية في سياسات التوظيف والتدريب داخل المؤسسات المالية، فبدلاً من التركيز على المؤهلات الأكاديمية أو المسميات الثابتة، يتحول التركيز إلى ما يمتلكه الفرد من مهارات حقيقية قابلة للتطبيق والتطور، ما يفتح المجال أمام مرونة أكبر في توظيف الكفاءات وتدويرها داخل بيئة العمل.
هذا النهج يعزز ثقافة التعلم المستمر، والتي تُعد حجر الأساس في بناء قوى عاملة قادرة على التكيف مع التغيرات التقنية والتنظيمية السريعة، ويعني ذلك أيضًا إعادة تصميم البرامج التدريبية بما يتوافق مع الاحتياجات الفعلية للسوق، وهو ما تعمل عليه الأكاديمية المالية من خلال برامج معرفية متقدمة تُبنى على تحليل دقيق للواقع المهني والاقتصادي.
يُبرز التقرير مجموعة من الوظائف المستقبلية في القطاع المالي، مثل: اختصاصي التمويل الأخضر، ومحلل الاستدامة، وخبير كشف الاحتيال، ومسؤول الخصوصية الرقمية، ومدير المحافظ المستدامة، ويمكن القول: إن هذه الوظائف أصبحت ضرورة استراتيجية لمواكبة المتغيرات العالمية في قطاع التمويل، خاصة مع صعود التمويل المسؤول والمستدام كقيمة مضافة في بيئة الأعمال. ومن المهم الإشارة إلى أن إعادة تشكيل مهارات القوى العاملة المالية تُعد ركيزة استراتيجية في مسار التحول الوطني، وأن الاستثمار في الكفاءات الوطنية هو أحد المفاتيح الأساسية لتحقيق مستهدفات رؤية السعودية 2030.
ولم يغفل التقرير الإشارة إلى أفضل الممارسات الدولية في هذا المجال؛ مثل تجربة سنغافورة التي تعتمد على شراكات بين القطاعين العام والخاص، والنموذج البريطاني في الاستجابة السريعة لاحتياجات السوق، إلا أن ما يميّز التوجه السعودي هو القدرة على مواءمة هذه التجارب الدولية مع الخصوصية الاقتصادية والتنظيمية المحلية، وبناء نموذج مهاري سعودي أصيل.
إن التحول الرقمي في القطاع المالي لا يُقاس فقط بالأدوات التقنية، بل بالأفراد القادرين على استيعابها وتطويعها، والمملكة اليوم، من خلال الأكاديمية المالية، ترسم ملامح جديدة لإدارة رأس المال البشري، تجعل من المهارة عملة المستقبل، ومن التعلم المستمر مسارًا وطنيًا لا خيارًا فرديًا، وفي ضوء ذلك، فإن مستقبل القطاع المالي لن يُبنى على الكفاءات القديمة، بل على مهارات تتجدد باستمرار، وتُعيد صياغة الدور الاقتصادي للمؤسسات والأفراد على حد سواء.. دمتم بخير.