اخبار السعودية
موقع كل يوم -جريدة الرياض
نشر بتاريخ: ١١ تشرين الثاني ٢٠٢٥
عبد الرحمن الأنصاري
شهدت الرياض مؤخراً انطلاقة النسخة الرابعة من مهرجان الأفلام الأوروبية، الذي جمع صُنّاع السينما والنقاد والمواهب السعودية بنظرائهم من صُناع الفن السابع في أوروبا، في تظاهرة فنية تعكس تزايد حضور المملكة على خريطة المهرجانات الدولية، إذ لم يكن حضور هذا الحدث مجرد متابعة لعروض الأفلام، بل تجربة حيّة تبرز كيف أصبحت المهرجانات اليوم رافدًا أساسيًا في تطوير صناعة السينما السعودية، ووسيلة لتبادل الخبرات وتعميق الحوار بين الثقافات السينمائية المختلفة.
هذه المهرجانات، وإن بدت في ظاهرها منصات عرض، إلا أنها في حقيقتها مختبرات فكرية وفنية تفتح المجال أمام صُنّاع السينما السعوديين للاطلاع على تجارب جديدة ومغايرة، وتبادل الأفكار، وفهم الصناعة من زوايا مختلفة، فكل مهرجان لا يضيف فقط إلى رصيد المشاهدة، بل إلى تجربة الصناعة ذاتها، وهو ما تحتاجه السينما السعودية في مرحلتها التأسيسية.
فيلم افتتاح المهرجان، FLOW، للمخرج اللاتفي غينتس زيلبالوديس، كان تحية فنية لروح السينما في أنقاها وأكثرها أصالة، فيلمٌ صامت بالكامل، استطاع أن يقول الكثير بلا كلمة واحدة، معتمدًا على الصورة والإيقاع والموسيقى البصرية، هذا العمل ذكّر الحضور بأن جوهر السينما لا يُقاس بعدد الحوارات، بل بقدرتها على إيصال الفكرة بأدواتها الخالصة، الضوء، الحركة، والإحساس، ليمثل بذلك إبداعاً وامتيازاً لصناعه أجبر كل من في القاعة على التصفيق المتواصل لفترة ليست بالقصيرة.
وبما أن الشيء بالشيء يذكر فلقد التقيت على هامش المهرجان، عدداً من الشخصيات السينمائية السعودية البارزة، وكان من أبرزهم الممثل الموهوب محمد الشهري، الذي دار بيننا حديث شيق حول مسيرته وتجربته، سألته عن تأخره في اقتحام مجال السينما رغم قدراته اللافتة، فأجاب ببساطة وصدق: “أنا لا أبحث عن الحضور، بل عن الأثر… أحب أن أكون جزءًا من عمل يبقى، لا مجرد ظهور عابر.”
كلماته تلك لامست فيّ جوهر ما تحتاجه السينما السعودية اليوم: الإيمان بالنوع لا الكم، وبالعمق لا الحضور المؤقت، فالممثل الذي ينتظر الدور الحقيقي، والمخرج الذي يرفض الإسراع بالإنتاج على حساب الجودة، والكاتب الذي ينقّح نصه مرارًا حتى يرضى عنه، هم جميعًا من يصنعون السينما القادرة على المنافسة العالمية، فالسينما ليست سباقًا في عدد الأفلام، بل في قيمتها، وبصمتها، وقدرتها على ملامسة الوجدان الإنساني.
وهنا تكمن رسالة مهرجانات كهذا المهرجان أن تجمع بين الفنانين لا ليستعرضوا أعمالهم فحسب، بل ليتأملوا في ما يمكن أن تكون عليه السينما السعودية حين تتسلح بالوعي والجودة، فحين يصبح “الاختيار الصعب” - لا “الظهور السريع” - هو معيار الفنان، سنصل إلى نقطة التحول الحقيقية التي تجعل من السينما السعودية مدرسة فنية لا مجرد ظاهرة إنتاجية.
لقد خرجت من قاعة العرض تلك الليلة وأنا على يقين بأن الطريق ما زال في بدايته، لكنه طريق واعد، ما دمنا نؤمن أن الفيلم ليس مجرد ترفيه، بل حوار بين الصورة والروح، وأن المبدع الحقيقي لا يقاس بكمّ ما صنع، بل بما أبقى فينا من أثر.










































