اخبار السعودية
موقع كل يوم -جريدة الرياض
نشر بتاريخ: ٧ كانون الأول ٢٠٢٥
جابر محمد الشعيبي
في العلاقات الدولية، لا يتحرك الاقتصاد بمعزل عن السياسة، ولا تُبنى الشراكات الكبرى بالتصريحات وحدها، بل بميزان المصالح وبحجم القوة التي يضعها كل طرف على الطاولة. وفي هذا السياق، جاءت زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، حفظه الله، إلى الولايات المتحدة كحدث يتجاوز البروتوكول التقليدي نحو إعادة صياغة المعادلة الاقتصادية بين الرياض وواشنطن، في لحظة يشهد فيها الاقتصاد العالمي تحولات جذرية.
ومع إعلان ولي العهد اعتزام المملكة رفع استثماراتها في الولايات المتحدة من نحو 600 مليار دولار إلى ما قد يصل إلى تريليون دولار خلال السنوات المقبلة، دخلت العلاقة الاقتصادية بين البلدين مرحلة جديدة. فهذا التوجه ليس مجرد توسع مالي، بل أداة استراتيجية لإعادة هندسة القوة الاقتصادية للمملكة داخل أكبر اقتصاد عالمي، وترسيخ نفوذها في القطاعات الأكثر تأثيرًا في القرن الحادي والعشرين.
وتعكس هذه الاستثمارات الضخمة تحوّلًا في الدور السعودي داخل أسواق رأس المال العالمية. فالمملكة لم تعد تبحث فقط عن عوائد مالية مستقرة، بل عن موقع مؤثر داخل الصناعات المستقبلية التي تعيد تشكيل القوة الاقتصادية الدولية، مثل التكنولوجيا المتقدمة، والطاقة المتجددة، والمعادن الحرجة، والذكاء الاصطناعي. وبناء حضور داخل هذه القطاعات في السوق الأميركية يمنح الرياض أدوات تأثير تتجاوز الاقتصاد نحو السياسة والأمن التكنولوجي.
ورغم التركيز الإعلامي على رمزية الزيارة، فإن العوائد الاقتصادية المباشرة كانت من أبرز نتائجها. فإعادة توجيه جزء من الاستثمارات السعودية نحو قطاعات النمو السريع يضمن للمملكة عوائد طويلة الأجل، ويقلل اعتمادها على تقلبات أسواق الطاقة. كما تمنح هذه الشراكات الرياض عوائد غير مالية مهمة، مثل نقل التقنية والمعرفة، وتأسيس شراكات تصنيع متقدمة، وإتاحة الفرصة للشركات السعودية للدخول في سلاسل القيمة العالمية. فالدخول إلى عمق الصناعات الأميركية المتقدمة يعني بناء قدرات سعودية قابلة لإعادة التوطين داخل المملكة لخدمة مشاريع كبرى مثل نيوم وأكساجون والصناعات الخضراء.
ومن الاتجاهات اللافتة، تركيز الزيارة على أمن سلاسل الإمداد، خصوصًا المعادن الحرجة التي أصبحت عنصرًا حاسمًا في صناعات المستقبل كالبطاريات، والسيارات الكهربائية، والرقائق الإلكترونية. ومع توسع الشراكات السعودية – الأميركية في هذه المجالات، تكتسب المملكة قدرة أكبر على حماية اقتصادها وبناء قوة تفاوضية تستند إلى موارد استراتيجية لا تقل أهمية عن الطاقة.
كما جاءت ملفات الطاقة النووية المدنية، والتقنيات المتقدمة، والذكاء الاصطناعي في قلب الزيارة، ما يعكس انتقال الشراكة بين البلدين من إطارها التقليدي القائم على النفط والدفاع إلى شراكة في اقتصاد المستقبل. فالولايات المتحدة تدرك أن السعودية لاعب حتمي في استقرار أسواق الطاقة، وفي أمن سلسلة الإمداد العالمية، وفي التحولات الجيو-اقتصادية التي تعيد تشكيل موازين القوة.
أما داخليًا، فإن استثمارات التريليون تمثل امتدادًا طبيعيًا لرؤية 2030، التي أعادت بناء الاقتصاد الوطني على أسس التنويع، والاقتصاد السيادي، والتقنية، والصناعة المتقدمة. فوجود استثمارات استراتيجية في اقتصاد بحجم الولايات المتحدة يفتح أبوابًا لنقل التكنولوجيا، وتوسيع الشراكات، وتمهيد الطريق لقيام صناعات سعودية في مجالات عالية القيمة مثل المعالجات الدقيقة والتقنيات النظيفة والمعادن المتقدمة.
في المحصلة، التريليون السعودي ليس استثمارًا ماليًا فقط، بل مشروع قوة اقتصادية يعيد رسم موقع المملكة في النظام العالمي الجديد. إنها خطوة تعكس ثقة وقدرة على صياغة المستقبل، وتُظهر أن السعودية لم تعد جزءًا من معادلة اقتصادية تُصنع خارجها، بل طرف رئيس في صناعتها. وبذلك، ترسم الرياض طريقًا جديدًا للقوة في القرن الحادي والعشرين، يقوم على التكنولوجيا، والاستثمار الاستراتيجي، والاقتصاد المعرفي، والشراكات الكبرى.










































