اخبار السعودية
موقع كل يوم -جريدة الرياض
نشر بتاريخ: ٣ أيلول ٢٠٢٥
تُمثل رؤية 2030 الإطار الوطني للتحول الاقتصادي والاجتماعي في المملكة العربية السعودية، إذ تهدف إلى تنويع مصادر الدخل وتحقيق التنمية المستدامة بعيدًا عن الاعتماد على النفط. منذ أن أعلن صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان عن هذه الرؤية، كان واضحًا أن المملكة تستعد لمستقبل ما بعد النفط. إلا أن ما قد لا يكون واضحًا للبعض، ولكنه في غاية الأهمية، هو الدور المحوري الذي يلعبه قطاع الرعاية الصحية وصناعة الأدوية تحديدًا ضمن هذه الاستراتيجية.
على مدى عقود طويلة، اعتمدت المملكة بشكل كبير على استيراد الأدوية، حيث يُغطى أكثر من 70% من احتياجات السوق المحلي عبر الواردات. غير أن الأزمات العالمية مثل جائحة كوفيد-19 واضطرابات سلاسل الإمداد كشفت حجم المخاطر المترتبة على هذا الاعتماد، ما دفع المملكة إلى التركيز على بناء صناعة دوائية قوية ومكتفية ذاتيًا داخل البلاد. ولا يقتصر هذا التحول على تقوية الاقتصاد فحسب، بل يهدف أيضًا إلى ضمان نظام صحي مرن وآمن يوفر العلاجات المنقذة للحياة وقت الحاجة.
واقع قطاع الأدوية في المملكة
على الرغم من أن المملكة تُعد من أكبر أسواق الرعاية الصحية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إلا أن قاعدة التصنيع الدوائي المحلية ما زالت في طور التطوير. فهناك أكثر من 50 مصنعًا دوائيًا مرخصًا يعمل داخل المملكة، إلا أن معظمها يتركز على إنتاج الأدوية الجنيسة والمستحضرات الأساسية، مع قدرة محدودة على تصنيع العلاجات المتقدمة أو الأدوية المتخصصة.
تشير التقديرات إلى أن الأدوية المنتجة محليًا لا تمثل سوى أقل من 30% من حجم السوق الدوائي في المملكة، في حين تبلغ قيمة هذا السوق أكثر من 44 مليار ريال سعودي. هذا التفاوت جعل من توطين صناعة الأدوية أولوية وطنية ضمن مستهدفات رؤية 2030.
لماذا يُعد توطين الأدوية مهمًا؟
أظهرت جائحة كورونا بوضوح الحاجة الماسة إلى توطين الصناعة الدوائية. فقد أدت القيود على الصادرات، وتعطل النقل العالمي، والارتفاع المفاجئ في الطلب، إلى نقص في الأدوية وتأخير وصولها للمرضى. لو كانت المملكة تنتج نسبة أكبر من أدويتها محليًا، لكانت قادرة على مواجهة هذه الأزمات بمرونة أكبر، وتوفير العلاج للمرضى دون انقطاع.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن التوطين يُسهم على المدى الطويل في تقليل التكلفة على النظام الصحي، إذ إن الأدوية المنتجة محليًا غالبًا ما تكون أقل تكلفة مقارنة بالمستوردة، خاصة عند احتساب رسوم الشحن والجمارك وتقلبات أسعار العملات.
مبادرات حكومية لدعم التوطين في ظل رؤية 2030
لا يجري العمل على توطين الصناعة الدوائية بمعزل عن التخطيط الاستراتيجي، بل يأتي في إطار منظومة شاملة من البرامج الوطنية. ومن أبرزها «البرنامج الوطني لتطوير الصناعة والخدمات اللوجستية» الذي يُعد أحد ركائز رؤية 2030، ويهدف إلى تحويل المملكة إلى قوة صناعية عالمية عبر تطوير قطاعات رئيسية تشمل الصناعة والطاقة والنقل والتعدين.
وقد تم تصنيف قطاع الأدوية كأحد أهم القطاعات المستهدفة بالاستثمار، مع تقديم مجموعة من الحوافز مثل الإعفاءات الضريبية، تسريع إجراءات التراخيص، وتخصيص مناطق صناعية متكاملة بالبنية التحتية. كما يقوم «صندوق التنمية الصناعي السعودي» بدور محوري عبر تقديم الدعم المالي للشركات المحلية والأجنبية الراغبة في التصنيع داخل المملكة.
بدورها، أسهمت «الهيئة العامة للغذاء والدواء» (SFDA) في تعزيز هذا التوجه عبر تبسيط إجراءات تسجيل الأدوية وجعلها أكثر شفافية، بما يتيح للشركات إدخال منتجاتها إلى السوق بشكل أسرع مع الالتزام بالمعايير الصارمة للجودة والسلامة. كما تسمح الهيئة لشركات استشارية مرخصة مثل PharmaKnowl بدعم المصانع في إعداد الملفات الفنية والتسجيل الدوائي وضمان الالتزام بالمتطلبات المحلية.
إلى جانب ذلك، يأتي تطوير الكفاءات الوطنية كعامل رئيسي في هذه المعادلة. فقد أطلقت المملكة «برنامج تنمية القدرات البشرية» ضمن رؤية 2030، بهدف تدريب السعوديين في مجالات علم الأدوية، والتقنيات الحيوية، وضمان الجودة. كما تعمل الجامعات ومراكز الأبحاث على تعزيز شراكاتها لتقديم برامج متخصصة تُعد الكفاءات الشابة لمستقبل مهني في القطاع الدوائي.
التحديات أمام توطين صناعة الدواء
رغم وضوح الرؤية وقوة الالتزام، فإن الطريق نحو الاكتفاء الذاتي الدوائي ليس خاليًا من التحديات. فبناء منظومة دوائية قوية يتطلب استثمارات ضخمة، خبرات متخصصة، وتعاونًا مستمرًا بين الحكومة والقطاع الخاص والجامعات.
من أبرز هذه التحديات نقص الكفاءات المتخصصة في مجالات البحث الدوائي المتقدم والتقنيات الحيوية والعلوم التنظيمية. وعلى الرغم من التقدم الملحوظ في تدريب السعوديين، إلا أن سد هذه الفجوة يتطلب استمرار الاستثمار في التعليم والتدريب العملي وبرامج تبادل الخبرات.
كما أن التكلفة العالية لإنشاء وتشغيل مصانع الأدوية تمثل عقبة أخرى، نظرًا لكونها صناعة شديدة التنظيم وتتطلب معدات متقدمة، وغرف نظيفة، واختبارات جودة صارمة، بالإضافة إلى أنظمة متطورة لإدارة المخلفات. هذه المتطلبات تجعل من دخول الشركات الصغيرة إلى هذا المجال أمرًا صعبًا دون دعم حكومي واستراتيجي.
أما على مستوى التنافسية العالمية، فإن التزام المصانع المحلية بالمعايير الدولية مثل متطلبات تسجيل المنتجات (Product Registration) و ممارسات التصنيع الجيد (GMP) ومتطلبات الهيئات الرقابية العالمية مثل FDA و EMA يُعد ضرورة ملحة. وقد قطعت المملكة خطوات مهمة في مواءمة أنظمتها مع هذه المعايير، إلا أن ضمان التطبيق المتكامل عبر جميع المصانع ما زال يمثل تحديًا قائمًا.
مستقبل رؤية 2030 في قطاع الدواء
تحقيق طموحات رؤية 2030 في توطين صناعة الدواء هو مسار طويل يتطلب تكاتف الجهود على جميع المستويات: الاستثمار، التعليم، التنظيم، والتعاون بين الأطراف المعنية. غير أن المؤشرات الحالية تبعث على التفاؤل، إذ أن السياسات الحكومية واضحة، والاهتمام من القطاع الخاص يتزايد، والمشاريع التأسيسية بدأت تأخذ مسارها الفعلي.
المرحلة المقبلة تتمحور حول التنفيذ الفعّال وضمان استمرارية الزخم، بما يضمن أن يكون التقدم مستدامًا وشاملًا للأجيال القادمة. وإذا استمرت المملكة على هذا النهج، فإنها ستتمكن من بناء صناعة دوائية وطنية قوية تُسهم في حماية صحة مواطنيها وتعزيز مكانتها كوجهة صناعية رائدة في المنطقة والعالم.