اخبار السعودية
موقع كل يوم -جريدة الرياض
نشر بتاريخ: ١ حزيران ٢٠٢٥
د. مشاري النعيم
من المعروف أن الرابطة المكانية تشترك مع مفهوم الهوية في توظيف 'الذاكرة' لاستعادة الصور الذهنية التي تعزز من مفهوم الانتماء لمكان أو شيء ما.. لذلك الأسئلة الكثيرة حول 'هوية مكة' لا أجد لها مبررًا، وهذا قد يعارض رأي كثير من المهتمين بالعمارة على وجه الخصوص، فهل مكة هي المكان أم العمارة التي تعبّر عن المكان في مرحلة تاريخية معينة؟
'وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ' (الحج: 27)، أحد الأسئلة المهمة هي: لماذا يأتي الناس لنفس المكان؟ وكيف تتشكل الرابطة المكانية؟ التحدي المكاني الذي يقدمه 'الحج' كونه يتكرر منذ 3800 عام وفي واد غير ذي زرع، فمنذ رفع النبي إبراهيم عليه السلام وابنه إسماعيل عليه السلام قواعد أوّل بيت وضع للناس، والناس تهفو إلى هذا المكان رغم أنه مكان لا زرع فيه ولا ماء إلا ماء زمزم الذي جرى بين يدي النبي إسماعيل وهو رضيع.
كان إبراهيم عليه السلام يعي أنه أسكن أهله بواد غير ذي زرع لذلك دعا الله بقوله 'رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ' (إبراهيم: 37). أساس الارتباط بالمكان أن أفئدة من الناس تتعلق بهذا المكان وتقوم بزيارته في كل حين، وهذا ما حدث، فالحج يمثل أحد أهم مظاهر الارتباط بالمكان المجرّد لأن نظريات 'الارتباط المكاني' Place Attachment تتحدث عن 'الحافز' الذي يمتلكه المكان ويحرك ذاكرة الناس ليجعلهم يرتبطون به ويكررون الزيارة له، لكن في مكة والمشاعر المقدسة هي الأمكنة البسيطة الخالية من مقومات الحياة التي شكّلت توجها مغايرا لتلك النظريات، فأفئدة الناس تهفو لهذا المكان منذ تلك الدعوة المباركة وظلت مكة محطة للحجاج قبل الإسلام لمدة 2400 سنة، فما هو السر في هذا المكان الذي جعل الناس تتعلّق به وما زالت؟
البعض يرى أنه يصعب تطبيق نظريات الرابطة المكانية على الأماكن المقدسة، وقد كان العرب قبل الإسلام يعرفون أن الكعبة بيت الله رغم مظاهر الشرك التي كان يستعرضونها حول البيت العتيق، فها هو عبدالمطّلب ابن هاشم، جد الرسول صلى الله عليه وسلم، يطلب إبرها الحبشي وجنوده الذي أتوا لهدم الكعبة، أن يردوا له إبله، وعندما سأله الناس عن كيف يسأل من سيهاجم الكعبة أن يرد الإبل ولا يدافع عن الكعبة، قال: 'للبيت رب يحميه'، فالتعلق بمكة والمشاعر المقدسة كان كامنا أحيانا وظاهرا أحيانا أخرى، وبعد أن أصبح الحج ركنا من أركان الإسلام، تحولت هذه الرابطة إلى علاقة ذهنية وإيمانية عميقة لدى كل مسلم.
مظاهر الارتباط العاطفي بالمكان تتصاعد في حال الأماكن المقدسة، لأنها نابعة من عاطفة إيمانية، لكن في حال مكة، مع صعوبة المكان والتحديات الكامنة فيه وصعوبات الوصول إليه، فهو يتطلب قطع الصحاري والتعرض للمهالك، حتى أن كثيرا من الحجاج كانوا يكتبون وصيتهم قبل الذهاب للحج، ومع ذلك كانت هذه الرابطة المكانية تزيد يوما بعد يوم، وكانت وما زالت أفئدة كثير من الناس تهفو إليه حتى أن ملم تتح له الفرصة لزيارة البيت الحرام تدمع عينيه من الشوق إليه. إنها درجة غير مسبوقة من مظاهر الرابطة المكانية المستمرة التي لم تنقطع في يوم منذ الدعوة المباركة لأبينا إبراهيم.
من المعروف أن الرابطة المكانية تشترك مع مفهوم الهوية في توظيف 'الذاكرة' لاستعادة الصور الذهنية التي تعزز من مفهوم الانتماء لمكان أو شيء ما.. لذلك الأسئلة الكثيرة حول 'هوية مكة' لا أجد لها مبررا، وهذا قد يعارض رأي كثير من المهتمين بالعمارة على وجه الخصوص، فهل مكة هي المكان أم العمارة التي تعبّر عن المكان في مرحلة تاريخية معينة؟ شكّل هذا السؤل منعطفا جدليا منذ فترة طويلة ولا يزال، لكن حسب ما أرى، مكة هي ظاهرة مكانية وليست ظاهرة معمارية، فالمكان هو الذي سيبقى إلى الأبد أما ما يبنى على هذا المكان فهو خاضع لتغير الظروف عبر الزمن. كثير من الذين 'ينعون' هوية مكة يرجعون إلى بعض المواقع المقدسة في الديانات الأخرى ويقولون إن هويتها لم تتغير، والحقيقة أن الوضع مختلف كليا، لأن مكة حاضنة لشعائر حية تمارس يوميا وموسميا، وليست مكانا 'للمناسبات'، لذلك من يتباكون على بيوت مكة القديمة ورواشينها وبساطة الحياة فيها لا يعون استحالة قدرة المكان على استيعاب الاعداد المتزايدة من الزوار والحجاج. هذا ما يجعل مكة هي 'المكان' وليس 'الشكل' والصورة المشاهدة. سألني أحدهم في محاضرة قدمتها في جدة عن هوية مكة وهل تغيرت؟ فقلت له: اسأل نفسك هل ارتباطك بمكة تغير لأن عمارتها التاريخية تغيّرت؟ لن أذكر إجابة الرجل لأني اعتقد أن أغلب القرّاء يعرفونها.
الحج ظاهرة مكانية، فالمشاعر وتسلسل شعائر الحج المرتبطة بالمكان هي سلسلة من الأفعال التي تستعيد، كل عام، القيمة الكامنة في كل مكان من تلك الأمكنة المقدّسة.. المدهش في الأمر أن التحدي الذي تواجهه نظريات الرابطة المكانية تبلغ أقصاها في هذه الأمكنة التي لا تحتوي على ذاكرة بصرية صريحة فهي أماكن جرداء تحيط ببعضها جبال سوداء، ومع ذلك تختزن ذاكرة بشرية ضخمة وتدور حولها حكايات لا تنتهي. دون شك، لا يوجد أي نظرية مكانية لا يشكل الإنسان محورها الأساسي، فهو الذي يجعل لها قيمة. في اعتقادي أن مكة والمشاعر المقدسة يشكّلان مفهوما مغايرا للمفهوم السائد حول التعلّق بالمكان، ومع ذلك فإن الله ذكر أن هذا التعلّق لا يخلو من المنافع والتجارة، فكل لقاء يجمع الناس، تولد من خلاله فكرة 'المنافع' التي ذكرها الله في القرآن وجعلها رديفة للتعلق بالمكان.