اخبار السعودية
موقع كل يوم -جريدة الرياض
نشر بتاريخ: ١٨ تموز ٢٠٢٥
د. عبدالملك السباعي
انتشر خبر فوز رواية «ابنة ليليت» للروائي المبدع أحمد عبدالعزيز السماري، واختيارها ضمن أهم ثلاث روايات سعودية لتحويلها إلى سيناريو سينمائي. حينها عزمت على قراءتها، ولحسن حظي استطعت الوصول إلى الراوي نفسه. وكما بدت ملامحه، بدا لي رجلًا دمثًا، طيبًا، خبرته السنون الطويلة وأثْرته التجارب المتنوعة والقراءات العميقة. ذلك ما شجعني على التواصل معه شخصيًا.
«ابنة ليليت» نصٌّ يفيض بسرد ناعم،
وإحكام لافت في البناء الفني.
ما قرأته يتسم بخصوصية بالغة. ليليت؛ كما هو معروف في الميثولوجيا، أسطورة تجسّد الأنثى المتمرّدة على سلطة الرجل والمجتمع الذكوري. وقد استدعاها السماري بذكاء لتكون مرآة عميقة لصوت بطلتِ «جواهر»، الطالبة الذكية ذات الأصل المختلط (أم هندية وأب سعودي)، التي تبدأ رحلتها بدراسة الطب، لكنها تصطدم بواقع مؤلم بعد أن يُحرمها شقيقها من الميراث، وتُجبر والدتها على مغادرة البلاد. أجمل ما شدّني في الرواية هو صفحاتها الـ30 الأولى. لم أقرأ منذ زمن هذا القدر من السلاسة والاتساق في السرد. يتحدث الراوي بضمير المتكلم على لسان “جواهر”، الشخصية التي تتوزع على كل ركن من أركان الرواية، حتى تبدو وكأنها مركز الجاذبية السردية؛ لا تغيب ولا تُغَيَّب. وهذا في حد ذاته إنجاز تقني يُحسب للمؤلف، يجمع بين التركيز والاقتصاد في اللغة، دون الوقوع في فخ الترهل أو الحشو.
مع تصاعد الأحداث، تبدأ “ليليت” الأسطورة في التكوّن داخل أعماق“جواهر”. تغادر الأم إلى الهند مكرهة، فيما تتجه البطلة إلى الولايات المتحدة، حيث تُطلق العنان لطاقة جبارة في العلم، لتصبح من أبرز جراحي القلب والأوعية في أمريكا. تختار لنفسها اسمًا جديدًا: “جورجيت دافور”، وكأنها تستجيب لنداء التمرّد الذي ظلّ كامناً في ظلّ ليليت. تتزوج هناك، لكن الزواج لا يصمد أمام اندفاع الذات نحو حريتها. تطلب الطلاق، وتخرج من التجربة بابنة وحيدة، فيما تستمر مسيرتها العلمية ببراعة نادرة.
هذه الرواية ثرية، بثراء الروائي نفسه، الذي صاغها من ثلاثة محاور واضحة: تجارب حياتية طويلة، وقراءات ممتدة، وأسفار زاخرة بالمواد الخام الروائية. يصف السماري مدن الولايات المتحدة وموريتانيا، وأبناءها وطقوسهم، بدقة لافتة، تُشعرك أنه لم يمر عبورًا بل عاش المشهد.
الرواية جميلة، عميقة، وتكشف عن قدرة الأنثى حين تتحدى السياق وتعيد تشكيل قدرها بوعي وإرادة. كما تعكس احترافية الراوي في بناء الشخصية، واختيار العنوان الذي يُومئ ولا يصرّح.
وقد كانت ثنائية الأصل في “جواهر” (هندي/سعودي) عنصرًا مركزيًا في تكوينها النفسي، وكأن التنوع الجيني كان وقودًا لذكاءٍ متّقد. لن أفسد نهاية الرواية، لكنها صادمة بقدر ما هي كاشفة: تكشف هشاشة الإنسان، وتناقضاته، وسرّ قوته التي قد تكون أحيانًا مجرد قناع هشّ يُخفي هشاشة أعمق.
هنا حكاية لا تُفلت القارئ بسهولة، لا سيما أول 30 صفحة، ونهايتها التي تترك أثرًا لا يُنسى. الرواية تبوح بما لا يُقال، وتدعونا لنصغي إلى الكاتب كمؤلف أولاً، وكمن عاش وكتب هذه الحكاية. وامتناني، كروائي، لهذا العمل الذي يفيض بصدق التجربة وجمال السرد.