اخبار السعودية
موقع كل يوم -جريدة الرياض
نشر بتاريخ: ٢٢ أيلول ٢٠٢٥
خالد بن علي المطرفي
خصصت الصين أكثر من 2.4 % من ناتجها المحلي الإجمالي للإنفاق على البحث والتطوير، وهو رقم يضعها في مصاف الدول الأكثر استثمارًا في هذا المجال، لكن الأهم من الرقم هو أن هذا الاستثمار ليس عشوائيًا، بل جزء من خطة خمسية متكاملة تسعى لنقل الصين من مرحلة 'مصنع العالم' إلى 'مختبر العالم'..
منذ أكثر من عقد، ظلّت سويسرا تتربع على قمة مؤشر الابتكار العالمي (Global Innovation Index – GII)، الصادر عن المنظمة العالمية للملكية الفكرية (WIPO) بالشراكة مع مؤسسات بحثية دولية، والذي يقيس الأداء الابتكاري للدول عبر أكثر من 80 مؤشرًا يشمل الاستثمار في البحث والتطوير، والبنية التحتية، والبيئة المؤسسية، والمخرجات المعرفية والإبداعية، وأصبح هذا المؤشر اليوم أشبه بمرآة لقياس ديناميكيات القوة الاقتصادية والتكنولوجية عالميًا، فهو لا يرصد فقط من يتقدم ومن يتأخر، بل يضع أيضًا خطوطًا عريضة للمستقبل.
وفي النسخة الأخيرة من المؤشر، برزت الصين لأول مرة بين أكثر عشر دول ابتكارًا في العالم، متجاوزةً ألمانيا –أكبر اقتصاد أوروبي– التي تراجعت إلى المركز الحادي عشر، ولا يمكن اعتبار هذه القفزة مجرد رقم في قائمة تصنيفية، بل تعبير عن نقلة استراتيجية في مسار التنافس التكنولوجي والاقتصادي بين الشرق والغرب، وهنا يصبح السؤال مشروعًا: هل نحن أمام تحوّل جذري يعيد صياغة قواعد اللعبة العالمية للابتكار؟
تُظهر البيانات أن الصين خصصت أكثر من 2.4 % من ناتجها المحلي الإجمالي للإنفاق على البحث والتطوير، وهو رقم يضعها في مصاف الدول الأكثر استثمارًا في هذا المجال، لكن الأهم من الرقم هو أن هذا الاستثمار ليس عشوائيًا، بل جزء من خطة خمسية متكاملة تسعى لنقل الصين من مرحلة «مصنع العالم» إلى «مختبر العالم».
ضاعفت الصين أعداد الباحثين والعلماء، وربطت الجامعات بمراكز الأبحاث والشركات الناشئة، وجعلت الابتكار سياسة وطنية، وهنا نلحظ كيف استطاعت القيادة الصينية أن تُحوّل الاستثمار في العلوم إلى مشروع قومي يُعبّئ الطاقات الوطنية، ويستهدف بناء اقتصاد قائم على المعرفة، لا على العمالة الرخيصة فقط.
من الذكاء الاصطناعي إلى شبكات الجيل الخامس، تقود الصين اليوم موجات الابتكار التقني بوتيرة غير مسبوقة، فشركات مثل بايدو وتينسنت باتت منافسًا حقيقيًا لنظرائها في وادي السيليكون، فيما تمتلك الصين أكبر شبكة 5G في العالم، بما يعزز من قدراتها في قطاعات حيوية مثل السيارات ذاتية القيادة، والمدن الذكية، وإنترنت الأشياء، أما في قطاع الطاقة، فتحولت الصين إلى لاعب رئيس في التكنولوجيا الخضراء، سواء في تصنيع الألواح الشمسية أو البطاريات الكهربائية، لتصبح هذه القطاعات رافعة اقتصادية وصناعية تفتح لها أسواقًا عالمية جديدة.
الأكثر دلالة أن الصين سجلت في عام 2023 ما يقارب ربع براءات الاختراع الدولية عالميًا، وهو ما يضعها في موقع متقدم على دول كبرى كالولايات المتحدة واليابان وألمانيا، ويحمل هذا المؤشر الكمي في طياته بُعدًا نوعيًا، وهو أن الإبداع لم يعد مقتصرًا على تقليد أو تحسين منتجات موجودة، بل باتت الصين شريكًا في صياغة الموجات التقنية القادمة.
لا يقتصر الابتكار على المختبرات أو مراكز الأبحاث، بل يمتد إلى حياة المواطن الصيني اليومية، فالاقتصاد الرقمي –المدفوع بالتقنيات الجديدة– أصبح جزءًا من المشهد المعيشي، حيث يعتمد مئات الملايين على أنظمة الدفع الإلكتروني، وتتصدر منصات التجارة الإلكترونية مثل «علي بابا» و»JD.com» الأسواق العالمية.
هذا التحول الرقمي لم يعزز فقط من مكانة الصين كسوق تقني ناشئ، بل خلق فرص جديدة للتنمية المتوازنة، وفتح الباب أمام دول نامية أخرى للاستفادة من النموذج الصيني، أو بمعنى آخر، ما تفعله الصين داخليًا بات يُترجم خارجيًا في شكل شراكات، استثمارات، ونقل خبرات لدول تبحث عن نموذج بديل للتنمية.
إن تقدم الصين لا يمكن فصله عن التراجع النسبي لاقتصادات كبرى، فبينما صعدت بكين إلى العشرة الأوائل، تراجعت ألمانيا إلى المركز 11، فيما تسجل الولايات المتحدة واليابان مؤشرات قوية لكنها أقل بريقًا في براءات الاختراع.
رغم هذا التقدم، يواجه العالم تحديات حقيقية، مشيرًا تقرير «ويبو» إلى أن وتيرة نمو البحث والتطوير عالميًا بلغت أدنى مستوياتها منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008، وأن صفقات رأس المال الاستثماري لم تتعافَ بعد من ركود 2023، وهذا يفتح تساؤلات حول مدى قدرة الصين على الاستمرار في قيادة السباق وسط بيئة مالية واستثمارية عالمية غير مستقرة، كما أن السياق السياسي، مثل التعريفات الجمركية الأميركية في عهد ترمب، لم ينعكس بعد بشكل كامل على المؤشر، وهو ما يعني أن مشهد الابتكار قد يشهد تقلبات جديدة بفعل السياسات الاقتصادية الكبرى.
إن دخول الصين نادي العشرة الكبار في مؤشر الابتكار العالمي، يمثل إشارة تحوّل في اتجاه القوة التكنولوجية العالمية، فالمشهد الذي ظل لعقود محتكرًا من الغرب، بات يشهد اليوم صعود الشرق، وتحديدًا الصين، كفاعل لا يمكن تجاهله، لكن يبقى السؤال: هل نحن مقبلون على مرحلة يصبح فيها «المعيار الصيني للابتكار» هو المهيمن عالميًا؟ وهل سيعيد هذا الصعود رسم قواعد الاقتصاد الدولي، بحيث تتحول الصين من لاعب كبير إلى قائد للنظام الابتكاري العالمي؟
تلك أسئلة مفتوحة لا تحمل إجابة قاطعة اليوم، لكنها بالتأكيد تضع العالم أمام مرحلة جديدة من المنافسة، فالمستقبل ليس مرهونًا فقط بما يحدث في وادي السيليكون أو برلين، بل بما يُصنع في بكين وشنتشن وشنغهاي.. دمتم بخير.