اخبار السعودية
موقع كل يوم -جريدة الرياض
نشر بتاريخ: ١٤ تموز ٢٠٢٥
د. فايز بن عبدالله الشهري
أحدثت ثورة العصر الرقمي، وانتشار شبكات التواصل الاجتماعي تحوّلًا جذريًا في مشهد الثقافة السياسيّة والتعاطي معها، مؤدّية إلى ولادة ما يمكن تسميته بتشويش الثقافة السياسيّة الإلكترونيّة. وتتجلّى هذه الظاهرة في سرعة ظهور المواقف والسلوكيّات والخطابات والهُويّات السياسيّة للأفراد والجماعات (والحكومات بصورة أقل) عبر الفضاء الإلكتروني، مُعيدةً بذلك صياغة كيفيّة تفاعل عموم الناس مع مجريات الأحداث، ومستويات إدراكهم للواقع السياسي، وحتى أساليب تعبئتهم.
وبفضل الترابط الاتصالي الفائق ' hyper-connectivity'، الذي سمح بالتواصل العالمي الفوري، تمكّن الأفراد من التواصل مع بعضهم البعض، وإنتاج وتبادل المحتوى والوصول إلى المعلومات دون وسطاء عبر مختلف المنصّات والشبكات. وهذه المظاهر على إيجابيّاتها الكبيرة إلّا أنها في الوقت ذاته أسهمت في تعزيز حالة التشرذم الفكري والسياسي، وعزلت كثير من الناس في جيوب رقميّة متجانسة أيديولوجيًا. إذ إنها تُعطي الأولويّة على شاشة المستخدم بما يعزّز ما لديه من آراء ضمن سرديات مُبسطة وأحيانًا مضلِّلة على حساب الحوارات المنطقيّة. ويتعزّز هذا الحال بفضل خوارزميات المنصّات، المصممة ليس لإظهار المحتوى بناء على جودته بل على التفاعل (التفضيلات، المشاركات، الوقت المُستغرق) لتسود المعلومات والآراء المثيرة للمزيد من الانقسام.
ومن المفارقات، أنه في حين (يُفترض) أن يبدو الناس أكثر ترابطًا عبر وسائل 'التواصل'، إلا أنهم يصبحون أكثر عزلة داخل فقاعاتهم الأيديولوجيّة هذه، مما قد يُضعف تماسك النسيج الفكري المشترك والضروري للتعايش المجتمعي. إذ توفر هذه الثقافة السياسيّة الإلكترونيّة أدوات فعّالة لكلّ من يسعى إلى التلاعب بالرأي العام من طريق بثّ ثقافة الإرجاف والتشاؤم أو الكراهيَة.
وتكمن أهميّة هذا التحوّل أيضًا في تأثيره على مستوى (جودة) الثقافة السياسيّة في ساحات رقميّة مفتوحة تتشكّل فيها الآراء السياسيّة والمواقف وتُعزّز بقوّة لدى شرائح واسعة من الناس، وخاصةً الفئات العمريّة الشابّة. وعلى هذه المنصّات تلقى السرديات الشعبويّة، التي غالبًا ما تُبنى على انقسام صارخ بين 'شعب نقي' و'نخبة فاسدة' صدىً قويًا في الفضاء الرقمي على حساب التفكير النقدي المتأني. ومكمن الخطورة هنا هو أن الضخّ المضلّل أو غير المرشّد للمعلومات والآراء المشحونة قد يسهم في تحويل الخلافات السياسيّة والفكريّة إلى صراعات وجوديّة، حيث يُصوّر 'الآخر' المختلف عدوًا يجب القضاء عليه وليس مجرد ند مختلف يمكن الحِوار والتعايش معه.
ومما يزيد من تحديات الثقافة السياسيّة الإلكترونيّة ذلك الغياب الفعلي أو الحضور الضعيف للنخبة الراشدة القادرة على تعزيز النقاش المنطقي ودعم المعايير العقلانيّة للحوار. وحين تظهر هذه النخب على وسائل الإعلام التقليديّة (أدوات النخبة) فغالبًا (بتأثير محدود) التي تواجه ضغوطًا اقتصاديّة، وأزمة ثقة ما جعل دورها كمنصات (متزنة) للمعلومات الموثوقة والحوارات الإيجابيّة المشتركة يتراجع بشكل كبير.
ومن جهة أخرى، يواجه أهل الرأي والخبراء المتمرسون في كل علم وفنّ حالات التهميش والجحود الواضح فيمَا يُسمّى بيئة ما بعد الحقيقة الرقميّة 'post-truth''، وغالبًا ما يُستهزأ بهم من بعض النشطاء الرقميين باعتبارهم جزءًا من 'الماضي'. وهذا الوضع المربك سيخلق فراغًا تدريجيًا في القيادة المجتمعيّة الراشدة والمسؤولة من جرّاءِ صخب المواقف الفوضويّة والمشحونة عاطفيًا في الفضاء الإلكتروني، وبهذا تهيمن المعلومات المضلِّلة، والأصوات المتطرفة، وتتعمق الخصومات، ومن ثمّ تتأسس مفاهيم أجيال كاملة على ثقافة سياسية مغشوشة، وقناعات فكريّة مضطربة.
مسارات
قال ومضى:
إذا لم يعجبك سماع الحقيقة فلا تُشوّش عليها بالصراخ.