اخبار السعودية
موقع كل يوم -جريدة الرياض
نشر بتاريخ: ٣٠ أيار ٢٠٢٥
د. ملحة عبدالله
لم تعد النظريات التي ظهرت في القرن الثامن عشر مثل الحداثة، أو حتى الحديثة منها والمعاصرة، سوى نظرات مقنعة تنسلخ من نصها الأدبي وتخرج بدوافعها الابستمولوجية إلى سلوك الأفراد طواعية، لما للأدب من تأثير سيكولوجي على حياة الفرد ثم السلوك المجتمعي، بحيث يصل الأمر إلى نزع الهويات والقوميات، كما في دستور النظرية العولمية التي جاءت تطورًا ممهدًا لها في الحداثة والحداثة الحديثة..
قد يبدو المسخ مستفزا، بل مرفوضا في ظل الاعتزاز الشديد بهويتنا العربية؛ إلا أنه بالتأمل فيما أسماه الفلاسفة وصناع الفكر العالمي بالعولمة يصب في هذا الإناء شئنا أم أبينا، وهو ما نتأمله في عمق هذا الفكر الذي قد بدأ بالحداثة إبان القرن الثامن عشر كما أرخ له المؤرخون، ثم تلاه ما أسموه في تعاطي الأدب والإبداع بالحداثة الحديثة، وبناء عليه كان التطور الطبيعي لهما هو نظرية العولمة والتي وصلت لنا عام 1991 تقريبا!
ولذا نجد كتاب توماس فريدمان (العالم مسطح) عام 2005م، مشيرا إلى أنه التاريخ المختصر للقرن الواحد والعشرين، مع التوقع الكبير الذي سيحدث في عالم الاتصالات، مشيرا إلى انهيار حائط برلين وما تبعه من انهيار الحواجز ودخول الصين والهند وروسيا والأميركيتين في العالم المسطح الجديد، متناولا كلمة مسطح مجازيا لتلك اللغة السائدة في فن الاتصال، كستار ضمني لما سيصل له العالم من ذوبان سواء كان في الهويات أو القبليات وما إلى ذلك مما دعت له نظرية جان دريدا في التفكيك التي قد تبدو أدبية بحتة إلا أنها في عمقها تدعو للتفكيك في كل شيء بداية بالتاريخ والذي أشار له فريدمان. فدريدا يدعو إلى هدم التاريخ من أجل إعادة بنائه، وفريدمان يدعو إلى ذوبان العالم في بوتقة واحدة كما يتراءى له من خلال فنون الاتصال.
فكلمة مسطح هي المقابل لكلمة كروي ولم يكن هنا يناقش كرستوفر كولومبس في مدى مصداقية أن الأرض كروية أم مسطحة أم منبعجة، ولكنه بعد رحلته إلى الهند تلك ورأى ما آل إليه العالم من سرعة مذهلة في انتقال الأفكار وكذلك التقدم العلمي. 'إن حركة التسطيح سوف تستمر ولن تتوقف حتى يتصل العالم ويتواصل العمل 24 ساعة في اليوم وسبعة أيام في الأسبوع و365 يوم في السنة'.
فمن جراء هذه الحركة يتضح لنا كيف أن الزمان والمكان ينتفيان في ظل العصر الجديد، فالدماء العالمية تختلط في نضال مستمر للتسابق على المعرفة والفوز بلقب العالم الأول أو الأوحد بسبب ذلك الاختلاف الذي أشار إليه جاك دريدا، حيث يتجلى ذلك في اختلاف التوقيت في عالم أصبح يراه فريدمان واحداً يحيا يقظاً طيلة الوقت.
فإذا افترضنا أن الحداثة قد بدأت في القرن الثامن عشر -كما أرخ لها المؤرخون- فإن فريدمان يؤرخ لتلك الحقبة بما أسماه المرحلة الأولى من العولمة إذ افترض، بل أكد أن المرحلة الثانية تبدأ من 1492 حتى 1800 حيث ساد الأولى استخدام القوة في السيطرة من قبل المستعمر والثانية ساد باستخدام السيطرة على الأسواق لإنعاش الدول اقتصادياً أما الثالثة فقد بدأت من عام 2000 وذلك لأنها تبرز فيها أهمية الفرد الذي يستطيع في العالم المسطح تجاوز كافة أنوع المعوقات والعراقيل والتواصل مع أي شخص أو مكان في العالم بحسب قوله.
فإن المتأمل في هذا التقسيم الزمني الذي أتى به فريدمان يحتوي على تلك الحقبة التي ولدت فيها الحداثة بأفكارها وتأثيرها على أدب وفنون الشعوب، ثم ينعكس ذلك على السلوك الفردي بطبيعة الحال، وبذلك نجد أن الحداثة والحداثة الحديثة والعولمة، تكمن في باطنها تلك السيطرة التي بدت في هفوات قلمه التي تعمل على ذلك التغيير الدائب من مفهوم السيطرة والاستعمار المقنع، وإن تغيرت أشكاله وتعددت قضاياه إلا أن الإنسان هو الهدف وبالأخص تلك الكرة الرابضة بين أذنيه.
ولذلك يقول في كتابه هذا: 'كان الأوروبيون والأميركيون هم من قادوا وسيطروا على حركة العولمة في طوريها الأول والثاني، فإن الطور الثالث منفتح للجميع وعلى الجميع من كافة أطياف وألوان قوس قزح'.
ولذلك لم تعد النظريات التي ظهرت في القرن الثامن عشر مثل الحداثة، أو حتى الحديثة منها والمعاصرة، سوى نظرات مقنعة تنسلخ من نصها الأدبي وتخرج بدوافعها الابستمولوجية إلى سلوك الأفراد طواعية، لما للأدب من تأثير سيكولوجي على حياة الفرد ثم السلوك المجتمعي، بحيث يصل الأمر إلى نزع الهويات والقوميات كما في دستور النظرية العولمية التي جاءت تطورا ممهدا لها في الحداثة والحداثة الحديثة. فإذا ارتكزنا على مفهوم الزمان والمكان في هذين التيارين السابقين للعولمة، فإننا نجد أنه تم تذويب الزمان والمكان فيهما، إذ يكون المكان البعيد قريبا ويكون الزمان مفتوحا، كما أن ثقافة الغائب باتت حاضرة لدينا، وهي قراءة في نظرية دريدا 'الاختلاف'، فالحاضر غائب والغائب حاضر، فالعالم كله نائم والعالم كله يقظ في وقت واحد بما أن العالم أصبح واحداً لدى فريدمان، وذلك يرجع إلى تذويب الزمان والمكان في الأدب.
هذا الغزو الثقافي عن طريق الأدب أولا ثم يتمدد في النظرية التفكيكية حتى يصل بدوره إلى نظرية العولمة التي تتعدى إطار الأدب الذي كان مدار النظريتين السابقتين، حتى يصل إلى رسم خارطة العالم جديد بشروط منها محو الهويات والقوميات والعرقيات، ووحدة لغة تجمع العالم كله بها -لغة خارجية غير داخلية- وتقليص الإنجاب والانتماء إلى الخارج وليس الداخل وآخرها الدعوة إلى الدين الإبراهيمي! كل ذلك عن طريق هذا التذويب في 'الزمكان' كقناع للسيطرة!
ولذا نجد صراعا كبيرا يكتنف الشخصية العربية، لأنه يصعب تذويبها، بما لها من قرب قريب بإرثها وتراثها وعاداتها وتقاليدها ومخزونها المعرفي والعقائدي وبين مسايرة الركب العالمي بما يدعو له من أن يكون الإنسان مجرد فرد في العالم، وأن العالم يحتويه ويكون نائبا عنه في الحقوق والواجبات، مما أنتج لنا هذا الصراع الذاتي (الغربة، الوحدة، الترنح بين هذا وذاك)، حيث أتت هذه الثقافة بالانعكاس على ما كانت تريده العولمة من ذوبان في بوتقة واحدة.
ولذلك فقه العالم مؤخرا بشقيه الشرق والغرب وتنبه إلى هذه النزعات في تنظيرات لا تخدم سوى السيطرة والاستعمار المقنع على فكر المجتمعات والأفراد وحتى على رؤوس الأموال العالمية والاقتصاد العالمي، فظهرت لنا هذه المحاولات لاعتدال الميزان العالمي وتوازن القوى، ولتذهب نظرية العولمة إلى المفازة، والتي لو كانت تهدف إلى ما طرحته في دساتيرها لما رأينا الإبادة الجماعية على أرض العزة والكرامة، كإذلال صارخ للهوية، ولما تواتر اشتعال النيران في أنحاء العالم أجمع باشتعال حروب لم يجد لها الفرد أصداء من بنود العولمة التي تدافع عن حقوق الإنسان لأنه -كما تدعي- بأنه أصبح فردا فيها، بل هو محو للهويات وإذلالها ومسخها. وهنا تسقط كل الأقنعة ليظهر وجه الاستعمار المقنع للفرد ثم للجماعة، ثم للاقتصاد العالمي، وكل ما هو على وجه الأرض، فضعف الطالب والمطلوب!