اخبار السعودية
موقع كل يوم -جريدة الرياض
نشر بتاريخ: ١٩ أيلول ٢٠٢٥
د. نجوى الكحلوت
تُعَدُّ كلمة «شكرًا» من أكثر الألفاظ تردادًا في التواصل الإنساني، وهي في حقيقتها ليست مجرّد تعبير آلي عن الامتنان، بل هي فعل لغويّ يحمل في طيّاته فلسفة عميقة تتعلق بالعلاقة بين الذات والآخر، وبين العطاء والاعتراف به. ولذا فإنّ البحث في الرد المناسب على هذه الكلمة لا يقف عند حدود البلاغة اللسانية، بل يتجاوزها إلى ميدان الفكر والأدب والأخلاق.
في معاجم اللغة العربية، يُقال: شَكَرَ الشيءَ إذا أثنى عليه وذكَرَهُ بخير. جاء في لسان العرب «الشُّكر نقيض الكفر، وهو الثناء على الإنسان بمعروف يوليك إيّاه» وفي القاموس المحيط «شَكَرَ له صنيعه: أثنى عليه وذكره بخير» يتضح أن الشكر في جوهره إظهارٌ للنعمة واعترافٌ بالفضل.
وكلمة (شكرًا) صيغة مصدرية من «شَكَر» حُذِف منها العامل، أي «أشكرك شكرًا»، ثم غلب الاستعمال حتى صارت وحدها تؤدّي معنى الامتنان. وهو الإظهار والإفصاح عن الجميل، سواء بالقول أو بالفعل.
إذا نظرنا إلى الردود العربية المأثورة، نجدها تدور بين صيغ متعددة، منها: العفو وهو ردّ يوحي بأنّ العطاء لم يكن يستوجب شكرًا أصلًا، وكأنّ الفعل الصادر تفضّلٌ طبيعيّ لا منّة فيه. والشكر لله وهو تعبير إيماني يردّ الفضل إلى مصدره الأعلى، فيرتفع الخطاب من مستوى الرد الفردي إلى مستوى التوحيد. وقد يأتي الرد بالمثل: شكرًا لك وهنا يتضمن مقابلة الاعتراف باعتراف آخر، مما يُشيع روح المساواة والمشاركة. وأحياناً يكون الرد (جزاك الله خيرًا) وهي صيغة دعائية تتجاوز حدود اللغة إلى فضاء الدعاء، فتضيف على الشكر بعدًا أخلاقيًا وروحانيًّا.
إن الرد المناسب لا يحدده المعجم اللغوي وحده، بل السياق الاجتماعي والفلسفة التي نؤمن بها في التواصل، ففي ضوء علم اللغة الاجتماعي (Sociolinguistics)، الرد على «شكرًا» يمثل فعلًا تداوليًّا (Speech Act) يعيد بناء العلاقة بين المتخاطبين. فهو ليس مجرّد تعبير لغوي، بل آلية لإعادة توزيع الأدوار الاجتماعية: هل المتحدث متفضل أم شريك؟ هل العلاقة عمودية (فضل من الأعلى) أم أفقية تبادلية؟ فالرد بـ»العفو» أو «لا شكر على واجب» يكشف عن نزعة ترى في فعل الخير واجبًا إنسانيًا لا يستحق الامتنان. هنا يتحوّل الرد إلى موقف أخلاقي أكثر من كونه فعلاً لغوياً.
والرد بـ»شكرًا لك» يُحوّل العلاقة من أحادية (فاعل - مفعول) إلى تبادل متكافئ، حيث يصبح الشكر فعلًا متبادلًا لا ينتهي عند أحد الطرفين. أما الرد بـ»الحمد لله» أو «الشكر لله» يعبّر عن وعي بأنّ الإنسان مجرّد وسيلة في تدبير إلهي، وأنّ الفضل كله مردود إلى الله. وهو رد يشيع روح التواضع الديني.
وفي حدود البُعد الفلسفي إذا تأملنا «شكرًا» وجدناها لحظة اعتراف. والاعتراف فعلٌ فلسفيّ بامتياز، إذ يعترف الإنسان بوجود الآخر وفضله. ومن هنا فإن الردّ عليها ليس مجرد إجراء لغوي، بل هو تحديد لموقفنا من الآخر: هل نراه شريكًا متكافئًا؟ أم نراه وسيلة إلى المطلق؟ أم نراه انعكاسًا لواجب أخلاقي لا يُذكر؟ فكل ردّ إذاً يعكس رؤية للعالم: العفو: العالم يقوم على الواجب. شكرًا لك: العالم يقوم على المشاركة. الحمد لله: العالم يقوم على مرجعية عُليا. جزاك الله خيرًا»: العالم يقوم على امتداد الخير عبر الآخر.
وبالعودة إلى المقام اللغوي الاجتماعي تأتي الردود وفق العلاقة، ففي العلاقات الرسمية «شكرًا جزيلًا» يقابلها «على الرحب والسعة»، وفي الودية «شكرًا» يقابلها «شكرًا لك». في المقام الروحي «شكرًا» يقابلها «الحمد لله» أو «جزاك الله خيرًا». إذاً اللغة أفقٌ يتجلى فيه الأخلاق والفلسفة معًا.
ومما سبق، يتبيّن أن الرد المناسب لكلمة «شكرًا» ليس واحدًا، بل ظاهرة لغوية فلسفية اجتماعية، يحددها السياق الاجتماعي والمقام الخطابي، كما يحددها الموقف الوجودي للمتكلم من الآخر. فإذا كانت «شكرًا» اعترافًا بالفضل، فإنّ الردّ عليها هو تحديد لطبيعة هذا الفضل، إما: واجب، مشاركة، إحالة إلى عفو الله، أو دعاء باستمراره. وبذلك يتجاوز الشكر كونه مجرّد تبادل لغوي إلى كونه تأسيسًا لعلاقة إنسانية متجددة.