اخبار السعودية
موقع كل يوم -صحيفة الوئام الالكترونية
نشر بتاريخ: ٥ تشرين الثاني ٢٠٢٥
لطالما تساءل العلماء والأطباء: لماذا لا تعمل لقاحات الإنفلونزا وكوفيد-19 بنفس الكفاءة لدى كبار السن؟ كانت الإجابة السائدة لسنوات تشير إلى عدو خفي يُدعى 'التهاب الشيخوخة'، وهو حالة من الالتهاب المستمر ومنخفض الدرجة يضعف الجسم مع مرور الزمن. لكن دراسة كبرى نُشرت في مجلة Nature المرموقة تقلب هذه الفكرة رأسًا على عقب، وتقدم تفسيرًا جديدًا قد يغير طريقة حماية كبار السن في المستقبل.
ما هي الفكرة الجديدة؟
الفكرة القديمة كانت بسيطة: مع تقدمنا في السن، يدخل الجسم في حالة التهاب مزمنة ترهق جهاز المناعة وتجعله أقل استجابة. أما الفكرة الجديدة التي تقدمها الدراسة، فهي أكثر دقة: المشكلة لا تكمن في الالتهاب العام، بل في 'إعادة برمجة' نوع محدد من الخلايا المناعية يُسمى الخلايا التائية (T cells).
لتبسيط الأمر، تخيل أن جهازك المناعي جيش متكامل:
– الخلايا التائية (T cells): هي 'القادة والمدربون' في هذا الجيش. وظيفتها التعرف على العدو (مثل فيروس أو لقاح) وتدريب الجنود على القتال.
– الخلايا البائية (B cells): هي 'مصانع الأسلحة'. تتلقى الأوامر من الخلايا التائية لإنتاج الأجسام المضادة، وهي 'الأسلحة' الدقيقة التي تقضي على العدو.
ما اكتشفته الدراسة هو أنه مع التقدم في العمر، يتغير برنامج 'القادة' (الخلايا التائية). وبدلًا من إعطاء أوامر واضحة وفعالة، تصبح تعليماتهم مشوشة، مما يجعل 'مصانع الأسلحة' (الخلايا البائية) تنتج كمية أقل من 'الأسلحة' الفعالة (الأجسام المضادة). والنتيجة: استجابة ضعيفة للقاحات.
لماذا هذا الاكتشاف مهم؟
هذا الاكتشاف ليس مجرد تفصيل علمي، بل له تأثير مباشر على صحة الملايين حول العالم:
– لقاحات أفضل لكبار السن: بدلًا من محاربة 'الالتهاب' بشكل عام، يمكن للعلماء الآن تركيز جهودهم على تصميم لقاحات 'تتحدث' بلغة الخلايا التائية المُسنة، أو ابتكار علاجات تعيد ضبط برمجتها لتعمل كما كانت في الشباب.
– فهم أعمق للشيخوخة: يعيد هذا البحث تعريف علاقة الشيخوخة بالالتهاب. تقول كلير جوستافسون، الباحثة الرئيسية في الدراسة من معهد ألين لعلم المناعة: 'نعتقد أن الالتهاب مدفوع بشيء مستقل عن مجرد عمر الشخص'.
ما هي الأدلة؟
لم تكن هذه النتائج مجرد تكهنات، بل استندت إلى دراسة دقيقة ومطولة:
– المنهجية: تابع الباحثون مجموعتين من الأشخاص الأصحاء على مدى عامين: مجموعة من الشباب (25-35 عامًا) ومجموعة من كبار السن (55 عامًا فما فوق). قاموا بسحب عينات دم منهم بشكل متكرر، وقارنوا أجهزتهم المناعية قبل وبعد تلقي لقاح الإنفلونزا السنوي.
– التقنية: استخدم الفريق تقنيات متطورة لتحليل كل خلية مناعية على حدة، ورسم خرائط للبروتينات المنتشرة في الدم، مما أعطاهم صورة غير مسبوقة لما يحدث داخل الجسم.
والنتيجة الحاسمة: لم يجد الباحثون زيادة ثابتة في علامات الالتهاب مع التقدم في العمر. لكنهم رصدوا بوضوح التغيير في سلوك 'الخلايا التائية الذاكرة'، وهي المسؤولة عن تذكر الإصابات السابقة لتسريع الاستجابة المناعية في المستقبل.
ومع ذلك، يحذر آلان كوهين، الأستاذ المشارك في جامعة كولومبيا (الذي لم يشارك في الدراسة)، من تعميم النتائج فورًا، مشيرًا إلى أن التغيرات المناعية الأكبر تحدث عادة بعد سن 65، وأن المشاركين في الدراسة كانوا من مناطق جغرافية محددة في الولايات المتحدة، وقد تختلف النتائج في مجموعات سكانية أخرى.
ويبقى أن هذا البحث يفتح فصلًا جديدًا في فهم شيخوخة جهاز المناعة، محولًا التركيز من مفهوم 'الالتهاب' الغامض إلى هدف خلوي دقيق، مما يبعث الأمل في مستقبل يتمتع فيه كبار السن بحماية صحية أفضل.










































