اخبار السعودية
موقع كل يوم -جريدة الرياض
نشر بتاريخ: ٥ أب ٢٠٢٥
الرياض – طلحة الأنصاري
في مثل هذا اليوم من كل عام، تتفتح في الذاكرة أزاهير الحنين، ويهطل من صوت الذكرى نغمٌ عذبٌ يحمل ملامح رجلٍ لم يكن مجرد فنان، بل ناثر نغمات وصائغ شعور، اسمه طلال مداح.
وإذا كان الزمن قد غيّب الجسد منذ أغسطس 2000م، فإن الروح الطلالية ما زالت تسري في أوتار الفن الأصيل، كما تسري النسائم في فجوة صمت، توقظ الحنين وتروي عطش المستمعين إلى زمن الطهر اللحني.
طلال، ذاك الفتى المكي الذي خرج من رحم الحجاز ذات صيفٍ من عام 1940م، لم يخطُ فقط في دروب الموسيقى، بل رسم بمشيته معالم الطريق، وعلّق النغم في عنق الزمن قلادةً لا تصدأ، غنّى كما يتنفّس، وكتب كما يتأمل، ولحّن كما يصلّي، حتى قال فيه الزميل عبدالله الحسني: «فيلسوف النغم الأصيل»، وهي تسمية لم تكن وصفًا عابرًا، بل اعترافاً بمقامٍ فني سامٍ جاوز به حدود اللحن إلى أفق الفكر، سارت بها الركبان.
وُلد طلال بن عبدالشيخ بن أحمد الجابري في مكة المكرمة، المدينة التي كانت ولا تزال حاضنة الروح ومهوى الوجدان، فتشكّل صوته في حضنها كما تتشكل السحب في حضن الجبال، نشأ في بيئة تنضح بالإيمان والبساطة، لكنها كانت حبلى بالإيقاع الداخلي، الإيقاع الذي نبت في قلبه قبل أن تنطقه الحناجر.
ومن أغنية 'وردك يا زارع الورد'، تلك التي حاكت بلطفها إحساس الناس، بدأت رحلته الكبرى نحو المجد، لم تكن الأغنية مجرّد انطلاقة، بل إعلان ميلاد لصوتٍ سيعيد تعريف الأغنية السعودية، ويمنحها هويةً موسيقية جديدة لا تعرف التبعية، بل تصوغ بصمتها على رمال الفن العربي.
الذين عرفوا طلال مداح عن قُرب، أجمعوا أنه كان فنانًا بنكهة مثقف، لم يكن يكتفي بالأداء، بل يغوص في جوهر الموسيقى، يدرس أبعاد الصوت والتقنية، ويختبر فضاءات الجملة اللحنية كما يختبر المفكر معاني الوجود.
طلال حين تحدث في لقاءاته النادرة عن حبه للتقنية، لم يكن ذلك استعراضًا، بل تعبيرًا عن توقه الدائم لتوسيع الخيال الموسيقي، وتجريب الأساليب الحديثة دون التنازل عن جوهر الأصالة، ولهذا اتسمت كثير من أعماله بجرأة في التلحين، واتساع في المساحات النغمية، ما جعل أغنياته تحتمل التأويل الفني، وتدعو إلى قراءة نقدية معمقة.
من 'أبها' إلى 'بيروت'، ومن 'الرياض' إلى 'القاهرة'، كان صوت طلال مداح يُجمع القلوب حوله، بصوته الذي يفيض حنانًا وصدقًا، وقد استطاع أن يعبر بالموسيقى السعودية حدود الجزيرة، ويغرسها في الوجدان العربي، من دون تكلف أو ادعاء.
عندما دخل القاهرة، وسط عمالقة الطرب، لم يكن صوتًا غريبًا بل كان اكتشافًا عربيًا، فعبدالحليم حافظ أنصت له بإعجاب، ومحمد عبدالوهاب منحه لقب 'زرياب'، وهو لقب لا يُمنح إلا لصفوة من أصحاب الأصوات النادرة، بل لصفوة المفكرين في مجال الموسيقى.
وليس مستغربًا أن يلتف المثقفون حول طلال، لا لوسامته ولا لصيته الفني، بل لخصوصية طرحه، ولموقفه من الفن كرسالة، لقد رأى فيه عبدالله الحسني تجسيدًا للفنان المتأمل، الذي لا يكتفي بأن يُطرب، بل يفكر من خلال الموسيقى، ويوصل المعنى عبر الجملة اللحنية.
ولذلك وُصف بأنه 'فيلسوف النغم الأصيل'، لأنّه لم يكن يؤلف اللحن بعفوية صمّاء، بل بروح الشاعر وبصر المفكر، فكل نغمة عنده كانت تشتبك مع فكرة، وكل وقفة غنائية كانت تنبئ عن تأملٍ عميق في الحياة والمشاعر والناس.
عندما غنّى طلال 'وطني الحبيب'، لم يكن يؤدي واجبًا وطنيًا كما يفعل الآخرون، بل كان ينشد من أعماق قلبه الذي تربى في حضن الوطن وتغذّى من ترابه.
وغدت الأغنية نشيدًا موازياً للنشيد الرسمي، تُردَّد في كل محفل، وتُغنّى على كل منبر، كأنها تعويذة حب لا تبلى، وربما هي أكثر الأعمال الفنية التي جسدت العلاقة العاطفية بين فنانٍ ووطن، علاقة انصهرت فيها الوطنية بالفن، لتولد حالة وجدانية لا تتكرر.
ومن بين عشرات الأغاني التي أبدعها طلال، بقيت 'مقادير' الأكثر ارتباطًا بذكراه، ربما لأنها تلخّص فلسفته في الحياة والموسيقى، ربما لأنها خيط يصل القلب بالصوت دون وسيط.
غناها بصوتٍ يبدو خارج الزمن، وكأنّه يخاطبنا من مقام أعلى، من حنينٍ صافٍ لا يشوبه الاصطناع، ومع كل مرة تُغنّى فيها 'مقادير'، يعود طلال حيًا، بنبرته، بتنهيدته، بنظرته التي تسكن النغمة أكثر مما تسكن المسرح.
في يوم 11 أغسطس 2000م، توقفت دقات قلب طلال وهو على المسرح في مدينة أبها، يحيي حفلاً أمام جمهور أحبه وتعلّق بصوته، رحل الجسد، لكن الروح بقيت مغروسة في كل وتر.
كان رحيله صدمة وطن، وفاجعة فن، ومأتم موسيقى، ومع ذلك، لم تبكِه الأغنية… بل وقفت احترامًا لمدرسةٍ كاملة، لفنان لم يُرد أن يغادر الحياة إلا واقفًا، يعزف لحنه الأخير.
طلال مداح ليس فقط إرثًا فنيًا، بل نموذج يحتاج إلى دراسات أكاديمية، وبحوث نقدية، ومراكز توثيق تحفظ ذاكرته الغنائية، ففي كل لحن من ألحانه مادة خام لفهم الذوق السعودي، وفي كل عمل مساحة لفهم تحولات المجتمع وارتباطه بالهوية الموسيقية.
وما زال كثير من عطائه طيّ التهميش، وأعماله بحاجة إلى إعادة أرشفة وتقديم، لا لتخليد الذكرى فحسب، بل لتأسيس جيل يعرف معنى أن يكون الفن رسالة لا مهنة.
في الذكرى الخامسة والعشرين لرحيله، لا نرثي طلال مداح، بل نحتفي به، نغنّي أغانيه لأننا نعرف أن فيها طهارة زمنٍ مضى، ونستدعي صوته لأننا نحتاجه وسط ضجيج الأغنية السريعة والموسيقى المعلبة.
وهو لم يكن مغنيًا، بل ذاكرة وطنٍ على هيئة صوت، ولم يكن ملحنًا فحسب، بل مؤسس وعيٍ فني، ولهذا سيظل 'فيلسوف النغم الأصيل' عنوانًا لكل من أراد أن يعرف كيف يُمكن لصوتٍ أن يتحوّل إلى وجدان أمة.