اخبار السعودية
موقع كل يوم -جريدة الرياض
نشر بتاريخ: ٢٨ أيار ٢٠٢٥
الرياض- محمد العرعير
في ظل التحول الرقمي المتسارع الذي يشهده القطاع المالي في المملكة، تبرز مبادرات تقنية محلية ليس فقط كأدوات لتحسين الكفاءة، بل كمحاولات جادة لإعادة صياغة المفاهيم السائدة، وتحديدًا تلك المتعلقة بالعلاقة المعقدة بين الدائن والمدين.
منصة «إبراء»، وهي شركة سعودية ناشئة تعتمد على تقنيات الذكاء الاصطناعي والتقنية العميقة في مجال تحصيل الديون، تقدّم نموذجًا مبتكرًا يتجاوز الأتمتة التقليدية. لا تنطلق المنصة من الدين كأولوية، بل من الإنسان نفسه؛ فالمتعثر في السداد ليس هدفًا للملاحقة، بل طرف في علاقة مالية تحتاج إلى إعادة تنظيم وتقدير للظروف المحيطة به.
ما يميز «إبراء» هو أنها تعتمد على فلسفة تحترم السياق والسلوك الفردي، وتترجم هذه الفلسفة في كل تفصيل من تفاصيل المنصة، من طريقة التواصل وتوقيت الرسائل، إلى اللغة المستخدمة في المخاطبات. فالتأخير في السداد – بحسب مقاربة المنصة – لا ينبع بالضرورة من سوء نية، بل غالبًا ما يكون نتيجة لتعقيدات شخصية أو ظرفية.
وتستند المنصة في عملها إلى أنظمة تعلم آلي تحلل البيانات السلوكية إلى جانب البيانات المالية، لفهم طبيعة تفاعل المستخدم: هل يفضّل التواصل في الصباح أم المساء؟ قبل الراتب أم بعده؟ عبر الهاتف أم الرسائل النصية؟ هذه المعلومات تُمكّن «إبراء» من اختيار لحظة التواصل الأنسب، لتكون جزءًا من الحل لا سببًا في تأزيم العلاقة. وقد أدت هذه الاستراتيجية، بحسب بيانات الشركة، إلى تقليص معدلات الشكاوى، وزيادة نسب الاستجابة بشكل ملحوظ.
وعلاوة على استخدام التقنية، تتيح المنصة واجهة استخدام تضع العميل في مركز القرار. فيستطيع الاطلاع على تفاصيل مديونيته، تصحيح بياناته، واختيار الطريقة الأنسب للسداد، سواء دفعة واحدة أو عبر خطة مجدولة أو حتى تأجيل بشروط محددة. هذا التحوّل من 'فرض الحل' إلى 'اقتراح الخيارات' أسهم في خلق نمط تفاعلي جديد، أكثر مرونة واحترامًا للطرف الآخر.
لكن الجانب التقني ليس وحده ما يُميز «إبراء». فثمة بعد ثقافي واجتماعي بارز في التجربة، لا سيما في بيئة مثل السوق السعودي، حيث لا تزال مسألة الديون محاطة بحساسيات اجتماعية ومخاوف قانونية. وفي هذا السياق، تؤكد «إبراء» على أن التحصيل يمكن أن يكون حوارًا، لا مواجهة، وأن من حق الفرد أن يُعامَل باحترام، حتى وهو يمر بأزمة مالية.
وقد بدأت هذه الفلسفة تنعكس على سياسات بعض الجهات التمويلية، التي باتت تتبنى أدوات أكثر مرونة في إدارة العلاقة مع العملاء، بما يتوافق مع الأنظمة والضوابط المعتمدة في المملكة، دون الإخلال بحقوق الأطراف.
وبينما تتوسع «إبراء» في السوق المحلي، فإنها تُعيد صياغة مفهوم التحصيل ذاته، من مهمة إجرائية إلى ممارسة قائمة على التواصل والتفاهم. ومن علاقة فوقية تقليدية، إلى علاقة متوازنة تراعي مصالح الطرفين، وتعمل ضمن إطار قانوني شفاف لا يُهدر حق الدائن، ولا يُغفل احترام المدين.
تجربة «إبراء» تنسجم بشكل واضح مع مستهدفات رؤية المملكة 2030، التي تسعى إلى بناء قطاع مالي مبتكر وفعال، لا يكتفي بتقديم المنتجات والخدمات، بل يعيد تصميم تجربة العميل كاملة، ويمنح الأولوية للفهم والتفاعل الإنساني.
وبهذا، تفتح «إبراء» بابًا واسعًا للنقاش حول طبيعة العلاقة بين الإنسان والنظام المالي. علاقة لا تقوم فقط على الأرقام، بل على الفهم والسياق. وهي تجربة لا تهدف فقط إلى تحسين الأداء، بل إلى بناء مناخ من الثقة والتعاون المستدام.
وقد تكون هذه التجربة بداية لتوسيع هذا النموذج في مجالات أخرى، حيث تتقاطع التقنية مع السلوك البشري، وتحتاج إلى حلول أكثر إنسانية وذكاء. فـ«إبراء» ليست مجرد منصة تحصيل، بل جزء من حركة أوسع تعيد تشكيل لغة التمويل، وتجعل من الذكاء الاصطناعي أداة للفهم والمقاربة، لا أداة للضغط والسيطرة.
وسواء انتشر هذا النموذج على نطاق أوسع أم لا، فإن التجربة تفتح أفقًا جديدًا، وتطرح تساؤلات تستحق التأمل، حول كيف يمكن للتقنية أن تُسهم في بناء علاقات مالية أكثر عدالة وإنسانية.