اخبار السعودية
موقع كل يوم -جريدة الرياض
نشر بتاريخ: ٦ تشرين الأول ٢٠٢٥
خالد بن علي المطرفي
مستقبل الاستثمار الرياضي في السعودية لن يُحسم فقط في غرف التعاقدات أو عبر الصفقات الكبرى، بل أيضًا في كيفية إدارة العلاقة مع 'الأصل الأكثر تأثيرًا' في صناعة الرياضة، ألا وهو (الجمهور)، فهذه الحقيقة وحدها كفيلة أن تجعل من إدارة الأزمات الجماهيرية محورًا استراتيجيًا في خطط الأندية المملوكة للصندوق، ونقلها من 'التحدي' إلى خانة 'الميزة التنافسية'..
في خضم التحول الكبير الذي يشهده القطاع الرياضي السعودي منذ بدء مرحلة الخصخصة، برزت 'الأزمات الجماهيرية' كأحد أكثر الملفات تأثيرًا وحساسية في مسار الاستثمار الرياضي، حيث لم تعد ردود فعل المشجعين مجرد انفعالات موسمية مرتبطة بنتائج المباريات، بل تحولت إلى عنصر مؤثر في القيمة السوقية للأندية، وفي قرارات الرعاة والمستثمرين، وتشكيل ملامح السياسات الإدارية ذاتها.
تستدعي هذه الحقيقة الجديدة قراءة مختلفة لطبيعة العلاقة بين النادي وجماهيره، وفهمًا أعمق للدور الذي يمكن أن تؤديه إدارة المزاج الجماهيري في إنجاح تجربة الخصخصة وتعظيم عوائدها؛ فالبيئات الرياضية المتقدمة، تُدار العلاقة مع الجمهور بوصفها وظيفة مؤسسية قائمة بذاتها، تندرج ضمن استراتيجيات الحوكمة والقرارات الاستثمارية.
أثبتت التجارب الأوروبية أن قوة العلامة التجارية لأي نادٍ لا تُقاس بعدد البطولات فقط، بل بقدرتها على الحفاظ على مستوى عالٍ من الولاء الجماهيري، والتفاعل المستمر، فالانتماء هنا أصل غير ملموس يُترجم إلى أرقام حقيقية في الميزانية من خلال تذاكر المباريات، والاشتراكات الرقمية، وعقود الرعاية، والمنتجات التجارية.
تزداد هذه المعادلة تعقيدًا في بيئة الخصخصة السعودية، حيث يتحول النادي من كيان ذي طابع اجتماعي إلى كيان استثماري مملوك لجهة سيادية تسعى إلى تحقيق عوائد طويلة المدى، وفي هذه الحالة، تصبح العلاقة مع الجمهور أحد المحددات الرئيسة في تقييم جاذبية النادي الاستثمارية، وهو ما يفرض على إدارات الأندية أن تنتقل من التعامل مع الأزمات الجماهيرية كردود فعل إلى إدارتها كسياسة مؤسسية، فالتعامل مع حملة جماهيرية غاضبة حول الشعار أو هوية النادي، مثلًا، لا يمكن أن يُترك لبيان إعلامي أو مقابلة تلفزيونية، بل يحتاج إلى منظومة تحليل للمشاعر الرقمية، وآليات استماع مستمرة، ومشاركة رمزية للجمهور في القرارات التي تمس هويته.
وإذا كانت هذه الرؤية تبدو في ظاهرها 'إدارية' أو 'اتصالية'، فإن آثارها الاستثمارية أعمق بكثير، فهي تمثل خط الدفاع الأول عن القيمة السوقية للأندية، وتوفر بيئة أكثر استقرارًا للرعاة والمستثمرين، وتزيد فرص التوسع في الأسواق الإقليمية والعالمية، حيث تناول التقرير الاستشاري المتعمق الصادر مؤخرًا بعنوان 'إدارة الأزمات الجماهيرية لأندية صندوق الاستثمارات العامة في مرحلة الخصخصة الرياضية'، هذه المسألة من زاوية دقيقة، مؤكدًا أن تحويل العلاقة الجماهيرية إلى وظيفة مؤسسية يفتح أمام الأندية آفاقًا جديدة لتعظيم القيمة السوقية وتعزيز الجدوى الاستثمارية، كما يرى التقرير -الذي أعدّه المختصان السعوديان ثامر باعظيم وفؤاد بوقس- أن هذا التحول لا يمثل تحسينًا في أدوات الاتصال، بل ركيزة استراتيجية في بنية الاستثمار الرياضي نفسه، كما أن إدماج الجمهور في الهيكل المؤسسي يعزز من ثقة المجتمع في الكيان، ويرفع من جاذبيته كشريك طويل الأمد.
ومن الزوايا التي يغفلها كثير من المهتمين أن الأزمات الجماهيرية ليست مهددًا للسمعة فقط، بل ربما تتحول إلى خطر استثماري، فحملات المقاطعة أو الحملات الرقمية السلبية، على سبيل المثال، لا تؤثر فقط في الرأي العام، بل قد تدفع بعض الرعاة لإعادة النظر في عقودهم، وتحدّ من شهية المستثمرين المحتملين للدخول في شراكات جديدة، والأسوأ من ذلك، انعكاسها على تقييم العلامة التجارية نفسها، وهو ما يؤدي إلى تراجع قيمتها السوقية، ومن ثم التأثير في العائد المالي على المدى الطويل، ومن هنا تأتي أهمية الانتقال من 'إدارة الأزمات' إلى 'حوكمة العلاقة الجماهيرية' بوصفها أداة استباقية لإدارة المخاطر الاستثمارية.
ويكشف التحليل الدقيق لتجارب الأندية المملوكة لصندوق الاستثمارات العامة (الأهلي، الاتحاد، الهلال، والنصر) خلال العامين الماضيين عن أن النجاحات الفنية، مهما بلغت، لا تضمن استقرار البيئة الاستثمارية إذا لم تُصاحبها سياسة اتصالية واعية، حيث يمكن لأي نادٍ تحقيق بطولة تاريخية، لكنه يفقد جزءًا من قاعدته الجماهيرية؛ بسبب قرارات إدارية تمس الرموز أو الهوية أو طريقة التواصل، وعلى العكس، قد يتجاوز نادٍ آخر موسماً ضعيفًا رياضيًا بفضل إدارة فعّالة لعلاقته مع جماهيره تمنحه رصيدًا من الثقة والصبر والاستمرار، وهذه المفارقة تكشف أن إدارة العلاقة الجماهيرية مكوّن أصيل في معادلة الاستدامة.
ولذلك، فإن بناء وحدات مؤسسية متخصصة في 'العلاقة الجماهيرية' ضرورة استراتيجية، ويُفضل ألا تقتصر وظيفتها على إصدار البيانات أو إدارة المنصات الرقمية، بل تمتد إلى رصد المزاج الجماهيري وتحليله، وقياس مستويات الرضا والانتماء، واقتراح سياسات تضمن إدماج الجمهور في عملية صنع القرار، ولو في حدود رمزية. كما أوصي بتبني تطوير مؤشرات أداء -كما جاءت في التقرير- مثل 'مؤشر المشاعر الرقمية' الذي يوفر أدوات كمية تساعد على تقييم الأداء واتخاذ قرارات مبنية على بيانات، لا على الانطباعات.
ومن هذا المنطلق، يمكن القول إن مستقبل الاستثمار الرياضي في السعودية لن يُحسم فقط في غرف التعاقدات أو عبر الصفقات الكبرى، بل أيضًا في كيفية إدارة العلاقة مع 'الأصل الأكثر تأثيرًا' في صناعة الرياضة، ألا وهو (الجمهور)، فهذه الحقيقة وحدها كفيلة أن تجعل من إدارة الأزمات الجماهيرية محورًا استراتيجيًا في خطط الأندية المملوكة للصندوق، ونقلها من 'التحدي' إلى خانة 'الميزة التنافسية' التي تعزز الاستدامة، وتزيد القيمة وتمنح التجربة السعودية خصوصيتها ونموذجها الفريد في عالم الرياضة.. دمتم بخير.