اخبار السعودية
موقع كل يوم -صحيفة البلاد
نشر بتاريخ: ٢١ تموز ٢٠٢٥
أتلقى منذ فترة إلى أخرى مقاطع مؤثرة لرجال ونساء من اليابان، يعملون- رغم تقدمهم الشديد في السن- رافضين الاستسلام لوهم التقاعد. أحد تلك المقاطع استوقفني كثيرًا، لامرأة يابانية، أجزم أنها تجاوزت المائة عام، تعمل بكل جد ونشاط في مطعم شعبي: تُعد الوجبات، وتتفاعل مع الزبائن، وظهرها منحنٍ تمامًا، حتى إن النظر إلى وجوه الناس أصبح تحديًا جسديًا بالنسبة لها. من زاويتنا الثقافية، قد نراها ضحية للإنهاك، أو نعتبر ذلك إهانة لها ومشقة قاسية، لكن السؤال الأعمق الذي يجب أن يُطرح: ما الذي يدفعها للاستمرار؟ ولماذا اختارت- أو ربما أصرّت- أن تظل فاعلة وسط المجتمع؟
هذا المشهد ليس نادرًا في اليابان. هناك التقدم في العمر لا يعني التراجع، ولا يُنظر إلى الشيخوخة على أنها نهاية العطاء، بل بداية مرحلة جديدة من الحكمة والنضج والاستمرارية. كبار السن يملأون المتاجر، يديرون المصانع الصغيرة، يزرعون، ويدرّسون، ويعملون حتى في محطات الوقود، بكل طاقة وانضباط يثير الإعجاب، ويخجل بعض الشباب.
أما في مجتمعاتنا، فكثيرًا ما يُقدَّم التقاعد على أنه نهاية الطريق. حفلة وداع رسمية، درع تكريمي، وعبارات شكر تُحيل الإنسان من خانة 'العامل” إلى هامش 'المتفرج”. بعدها تنسحب الأضواء، وتبدأ مرحلة طويلة من العزلة، والانشغال بأخبار الأمراض والعيادات، وربما انتظار لا ينتهي. نرفع شعار'استحق الراحة”، لكننا نغفل أن هذه 'الراحة” قد تكون بوابة الذبول والانطفاء لمن كان بالأمس مشغولًا بالعطاء والإنجاز.
التقاعد – كما نمارسه – ليس تكريمًا بقدر ما هو استبعاد تدريجي لخبرة بشرية نادرة. نظام صُمم ربما في سياق مختلف، لكنه الآن بات يخلق فراغًا نفسيًا لا تملؤه المعاشات، ولا تُعوضه الكلمات. لماذا نفترض أن من بلغ الستين لم يعد لديه ما يقدمه؟ لماذا لا نتيح العمل الجزئي، أو التطوع، أو التدريب ونقل المعرفة؟ لماذا لا يُسأل المتقاعد عمّا يريد، بدلاً من أن يُفرض عليه 'الصمت المهني” بمرسوم غير معلن؟
في اليابان، يُعامل المسن كأصل اجتماعي، لا كعبء اقتصادي. تتسم الأنظمة هناك بالمرونة، والثقافة العامة تحترم الخبرة وتقدّر الوجود الإنساني مهما طال العمر. الرجل الثمانيني ليس عالة، بل يُنظر إليه على أنه عمود من أعمدة الحكمة والاستمرارية، يُحتفى به حين يواصل العمل، لا يُستغرب منه ذلك.
ودائمًا ما أصادف شبابًا لم يبلغوا الخمسين بعد، وقد تملكهم هوس 'التقاعد المبكر”. ينتظرون بلوغه كما لو أنه خلاص. 'لا أريد أن أستيقظ باكرًا للدوام”، يقول أحدهم، وآخر يقول:' يكفيني ضغط العمل، أريد أن أنام متى شئت وأفعل ما أريد”. لكن، هل حقًا هذا ما نريده من الحياة؟ أن نغادر مضمار التأثير حين نكون في قمة النضج والتجربة؟ أن ننسحب من الساحة لنعيش على الهامش بحجة 'الراحة”؟
نحتاج إلى مراجعة حقيقية لمفاهيمنا. التقاعد لا ينبغي أن يكون انسحابًا من الحياة، بل تحوّلًا في الإيقاع. من سباق إلى مشي متزن، من قيادة مباشرة إلى إرشادٍ من الخلف. العطاء لا يحده العمر، والمجتمعات لا تنهض حين تُقصي حكماءها، بل حين تُبقيهم في المشهد وتمنحهم أدوارًا تليق بخبراتهم.
ولعل أجمل نهاية لأي عمر ليست الصمت، بل أن تظلّ حاضرًا. تعمل وتزرع وتوجه وتصنع الفرق بصوتك أو صمتك، ما دامت فيك روح قادرة على الإسهام. التقاعد ليس النهاية… بل وهم صنعناه حين توقفنا عن الإيمان بقيمة الإنسان.