اخبار السعودية
موقع كل يوم -جريدة الرياض
نشر بتاريخ: ٢٥ تشرين الثاني ٢٠٢٥
أكتب من الرياض. العاصمة التي تصنع مستقبلها بأيدي شبابها، حيث لا يكون الليل مجرّد معبرٍ إلى الصباح؛ بل مساحة تُراجع فيها المدينة ذاتها، وتستعيد صوتها الداخلي. هكذا تأتي العاصمة في «احتفال نور الرياض»، لا كعاصمة تُزيّن واجهاتها، بل كمدينة تسمح لنورها بأن يخرج من أعماقها إلى العالم.
فهذا الاحتفال الذي بات علامة فارقة في روزنامة الثقافة السعودية، لم يعد مجرّد فعالية ضوئية، ولا استعراضًا جماليًا عابرًا، بل حدثًا يختبر العلاقة بين الإنسان والمدينة، بين الخطوة والظل، بين الذاكرة والمستقبل.
نور الرياض هذا العام وربما أكثر من أي عام مضى يشبه تلك اللحظة التي يرفع فيها الإنسان رأسه ليلًا ليرى شيئًا لم يكن موجودًا قبل قليل، شيء يسميه الفن، وتسميه المدينة: احتمالاتها.
ليس في الرياض نقصٌ في الضوء. هذه حقيقة يعرفها كل من عاش فيها. لكن نور الرياض مختلف؛ فهو ضوء لا تبحث عنه العين بقدر ما تبحث عنه الروح.
ففي مركز الملك عبدالعزيز التاريخي، عند تلك النقطة التي يلتقي فيها الماضي بمشهده الطيني، بالحاضر الذي يشقّ نفسه في ناطحات الزجاج، يقف الزائر أمام أعمال ضوئية لا تتكلّم ولكنها تتنفس.
هناك، حيث يسير المرء في ممرات تتداخل فيها الأصوات والظلال والذكريات، يدرك أن الضوء هنا يفعل أكثر من الإضاءة إنه يكشف ما لم نقله عن الرياض بعد، ويُعيد ترتيب علاقتنا بها.
ربما أعظم ما فعله احتفال نور الرياض أنه نزّل الفن من عليائه، من جدران المتاحف وبوابات النخبة، إلى الناس العاديين، إلى الأطفال الذين يركضون بين الورش الضوئية، وإلى العائلات التي لم تذهب إلى معرض منذ سنوات، وإلى كبار السن الذين يجدون شيئًا من الدهشة التي نسوها.
فترى طفلًا يرسم بالضوء في ورشة «قصص في الرمل»، أو أبًا يبتسم لطفلته وهي تشارك في «لوّن واحتك»، أو شابًا يقف مذهولًا أمام عرض «انسيابية الحرير» كل مساء فهذا يعني أن الفن نجح أخيرًا في الامساك بما هو أبعد من الجمال: نجح في الإمساك بالحياة نفسها.
هذه الورش والأنشطة ليست تفاصيل جانبية، بل هي العمود الفقري لهذا الاحتفال. لأن المدينة التي تسمح لأطفالها بأن يلمسوا الضوء بأطراف أصابعهم، هي مدينة قررت أن تُربّي جيلاً لا يخاف التجربة.
حين يتجول الزائر بين أعمال نور الرياض، يشعر أن المدينة تخبره شيئًا بصوتٍ منخفض: «انظر إليّ جيدًا، فأنا لست تلك المدينة التي عرفتها قبل سنوات»، والحقيقة أن الرياض اليوم ليست مجرّد حاضرة ضخمة تتسارع فيها المشاريع، بل مدينة تُعيد تربية خيال سكانها. والمفارقة أن الفنّ هنا ليس ترفًا، بل ضرورة لقراءة هذا التحوّل.
تعلّمنا المدن الكبرى مثل لندن وباريس وروما ونيويورك أن قوتها ليست فقط في عمرانها، بل في قدرتها على تحويل الفن إلى جزء من نبضها. وهاهي الرياض تسير في الطريق ذاته، لكن بطريقتها الخاصة.. بجرأتها، بلغتها، بتحوّلها الذي يحدث «في لمح البصر» كما يعبّر شعار الاحتفال في نسخة هذا العام.
من الصعب أن تغادر مواقع نور الرياض كما دخلتها. فالضوء هنا لا يكتفي بأن يُدهشك، بل يضعك أمام أسئلة صغيرة تُشبه الهمس: هل رأيت كل ما كنت تظن أنك تراه؟ هل تعرف مدينتك حقًا؟. هل تعرف نفسك؟
في كل عمل ضوئي، هناك شيءٌ يلمع ثم يختفي، يشبه تلك اللحظات التي تأتي دون موعدٍ ثم لا تعود. وهذا ما يجعل الاحتفال ليس مهرجانًا بصريًا فحسب، بل تجربة إنسانية تستدعي الصمت أكثر مما تستدعي التصفيق.
احتفال نور الرياض حدث لا يحتاج إلى مديح، لأن الضوء لا يُمدَح؛ الضوء يُرى. ولكن ما يمكن قوله بشيء من الامتنان المبطّن أن هذا الاحتفال نجح في إعادة تعريف علاقة الإنسان بالمدينة، وفي جعل الرياض مكانًا تُمارس فيه الدهشة كعادة لا كاستثناء. لقد منح الاحتفال للمدينة وجهًا آخر، وجهًا لا يراه إلا من يمشي ببطء، أو يقف طويلًا أمام عمل لا يعرف لماذا جذبه، وهذا بحد ذاته إنجازٌ لا يحتاج توقيع أحد.
الرياض التي قررت أخيرًا أن تقول للعالم: «هذه أنا.. وهذا ضوئي».










































