اخبار الكويت
موقع كل يوم -جريدة القبس الإلكتروني
نشر بتاريخ: ٣٠ تشرين الأول ٢٠٢٥
كانت شيخة تجلس على أرض غرفتها، تحيط بها الذكريات، أمامها صندوقها القديم الذي تحتفظ فيه ببعض ذكرياتها منذ مراهقتها في تسعينيات القرن الماضي، تفتحه بين حين وآخر لتستنشق ما تبقّى من رائحة تلك الأيام، ومن بين ما فيه أشرطة كاسيت بأغلفةٍ باهتة، ومسجل صغير جهاز «ووكمان» كانت تظنّه يومًا قمة التطور التكنولوجي.
كان الصندوق أشبه ببوابة مفتوحة على زمنٍ عاشت فيه بساطة الحياة، وضجيج الأغاني الممزوج بحلم المستقبل، زمن الجيل الذي وُلد في الثمانينيات، وشهد ولادة التكنولوجيا ببطء قبل أن تجتاحه ثورة الذكاء الاصطناعي.
وبينما كانت شيخة تتأمل ذكرياتها، اقتربت ابنتها لولوة -ابنة الثانية عشرة- وسحبت أحد الأشرطة من الصندوق متسائلة باستغراب: شنو هذا؟! ضحكت شيخة وقالت: هذا شريط كاسيت، كنا نسجل عليه الأغاني. لكن دهشة لولوة لم تتوقف، فرفعت حاجبيها وسألت: بس ليش ماما ما كان عندكم يوتيوب؟!
توقفت شيخة لحظة، تنظر في عيني ابنتها الصغيرة التي تنتمي إلى عالمٍ لا يعرف الصبر على التحميل، إنه الجيل «زد» الذي لا يتخيل أن أبناء الجيل «إكس» (المولود بين 1965 و1980) كانوا يستمعون إلى الأغاني عبر شريط الكاسيت، وما يعنيه ذلك من الحاجة إلى «قلب الشريط» لسماع الوجه الثاني. ثم ابتسمت وقالت: «إحنا كنا نعيش زمن غير.. زمن نحس فيه بكل لحظة».
ذلك الحوار البسيط بين شيخة ولولوة مشهد متكرر في بيوت جيل الثمانينيات، جيلٍ يعيد اكتشاف ماضيه من خلال دهشة أبنائه، ليكتشف في كل مرة أن ما كان يُعد ثورة تكنولوجية في التسعينيات، أصبح اليوم ذكرى جميلة.. ربما قطعة متحفٍ تذكّر العالم بأن البداية كانت بسيطة جدًا.
فقد تمكنت التكنولوجيا الحديثة من إزاحة العديد من الأجهزة التي كان يتسابق مواليد الثمانينيات لامتلاكها في أيام مراهقتهم، بفعل الهواتف الذكية، التي أتاحت العديد من الخدمات، بلمسة بسيطة على شاشة الهاتف أو اللوح الرقمي، فأصبح بالإمكان استبدال مواقع الموسيقى، وعلى رأسها يوتيوب وغيره من تطبيقات، بأشرطة الكاسيت والمسجل والـ«ووكمان» الذي هو جهاز يعمل بالبطارية وبسماعات لتشغيل أشرطة الكاسيت أو السي دي لسماع الأغاني، وكان ثورة عصره.
تطبيقات التواصل
كلما تقدمت التكنولوجيا، تقلص عدد الأجهزة التي يحتاجها الإنسان في أنشطته اليومية، بل يمكن الجزم أن امتلاك هاتف ذكي سيغني عنها جميعا، بالتالي لا يمكن أن يعي مراهقو الجيل الحالي ابدا، معنى امتلاك آبائهم لجهاز الـ«بيجر» الذي يرن مظهرا رقم هاتف شخص يريد التواصل معهم، من ثم يبحثون عن هاتف أرضي ليتصلوا بذلك الشخص.
فاليوم، يمكنك مراسلة من تشاء، عبر واتس أب، أو سناب، أو تويتر أو تيك توك، وقائمة طويلة جدا من تطبيقات تتيح المراسلة المكتوبة أو الاتصال، هذا إلى جانب الاتصال العادي الذي أصبح متاحا بكل مكان وزمان.
ويمكن الجزم أن الجيل الحالي الذي يملك في هاتفه الذكي، كل ما يمكن أن يسهل حياته، بدءاً من الاتصال، وإرسال الرسائل، واستخدام الإنترنت، والاستماع للأغاني، ومتابعة البرامج والمسلسلات، والبحث، والتعارف والصداقات والحوارات المستمرة مع شات جي بي تي وغيرها الكثير الكثير من الخدمات السهلة لن يعرف أبدا عناء البحث عن أغنية ضمن كاسيتات عديدة، أو البحث عن معلومة في مكتبة عامة ضمن آلاف الكتب، في ظل وجود محركات بحث باتت جميعها تعمل بالذكاء الاصطناعي.
تطوُّر متواتر
وربما، الصفة الأكثر تناقضا بين زمن مراهقي التسعينيات ومراهقي الجيل الحالي، هو أن التطور التكنولوجي في التسعينيات كان بوتيرة بطيئة مقارنة بالوقت الراهن، فكانت كل تكنولوجيا تطرح، أو جهاز ينزل الأسواق يأخذ حظه من الاهتمام، حتى تطورت التكنولوجيا وأتاحت امتلاك جهاز كمبيوتر في المنازل، ثم بعدها انتشار الإنترنت عبر أجهزة «مودم» وخط هاتف أرضي، عبر توصيل «كيبل» الهاتف بجهاز الكمبيوتر، في موقع ثابت بالمنزل دون أن يتيح الاتصال إمكانية التنقل، وصوت «الأزيز» المميز الذي كان دلالة على عملية الاتصال بالشبكة العنكبوتية الذي ما زال سماعه يحمل الكثير من الحنين لدى أبناء ذاك الجيل، وهو شعور لن يعرفه جيل جديد أصبح موصولا بالإنترنت بكل بساطة وعبر جهاز يحمله بيده أينما ذهب.
إن الأجهزة التي أزاحتها تكنولوجيا العصر الحديث، واختصرتها بجهاز هاتف ذكي واحد يقدم خدمات عديدة ما إن يكون موصولا بشبكة الإنترنت، كانت في حينها أيضا تقنيات حديثة، وأصبحت اليوم ذكريات، يرويها «جيل الطيبين» لأبنائهم، وما زالت تحمل قيما معنوية كبيرة خاصة أن الحصول عليها لم يكن سهلا مقارنة بتكنولوجيا الجيل الحالي، فمهما امتد الحوار بين شيخة وابنتها عن ذاك الزمن، لن تستطيع أن تنقل إليها على سبيل المثال معنى عبارة «جزء من النص مفقود» عبر هاتف نقال في ذاك الزمن، لأن الرسالة القصيرة لم تكن تسع لأكثر من 70 حرفا تقريبا، فكيف سيفهم جيل الـ«واتس أب» ذلك؟!


































