اخبار الكويت
موقع كل يوم -جريدة القبس الإلكتروني
نشر بتاريخ: ٨ تشرين الأول ٢٠٢٥
ليس الخطر في أن يُلتبس وجه الرأي عند مفترق الطريق، بل ربما حين تغيب عن الدول البصيرة، التي تهديها إلى وجهتها قبل أن تُخيّر بين السبل، فتغدو قراراتها أقرب إلى ردّات الأفعال منها إلى صُنع الأفعال. إذ لا تُهزم الدول حين يضيق رزقها أو يقلّ مالها، بل حين تغيب عنها تلك البصيرة النّافذة، فتغدو عاجزةً عن إدراك مواضع الخطر قبل أن تتجسّد. ومن كان يُدير شأنه بنورٍ مستعارٍ من ماضيه، ظانًّا أنّ ما مضى كافٍ لما هو آتٍ، عاش في دوّامة التكرار، يخطو إلى الغد وهو مكبّلٌ بظلّ الأمس.
إنّ القرار الاقتصادي الرشيد ليس صدى لطارئٍ عارض، يُتّخذ تلبيةً لموقفٍ مفاجئٍ أو معالجةً لأزمةٍ مستجدّة، بل هو ثمرة فكرٍ متقدّمٍ يُبصر أثر المتغيّر قبل أن يُعلن عن نفسه، ويقدّر العواقب قبل أن تقع. فالحكمة في التدبير لا تُستمدّ من دفاتر الأرقام، التي تُقيّد الوقائع الماضية، بل من العقل الذي يقرأ ما وراءها، ويستنبط منها مسار الزمن ومكنون التحوّل. إنّ الفقر في الفكر أخطر من الفقر في المال، لأنّ الأوّل مولّدٌ للثاني، بينما الثاني، وإن كثر، لا يفتدي صاحبه من عجزٍ في البصيرة ولا يشتري له عقلًا نافذًا يُميّز به بين الحركة والاتجاه، وبين الوفرة التي تبني، والوفرة التي تُغري ثم تُهلك.
المخاطر.. حين يستحكم الغياب
أولاً: غياب الرؤية التحليلية المتقدمة: في الدول التي تُدار شؤونها الاقتصادية بغير بصيرةٍ نافذةٍ ولا نظرٍ استبصاري، تغدو القرارات أشبه بسلسلةٍ من الأقدار، تُفرَض ولا تُختار، تُساق ولا تُدار. يختلّ فيها ميزانُ الاتساق بين مؤسساتها، فينفرط عقدُ الوحدة بينها، ويتحوّل كلّ جهازٍ إلى عقلٍ قائمٍ بذاته، يظنّ أنه وحده العارف، وأنّ اجتهاده هو الأصل وما سواه فرع. وحين تتعدّد العقول بلا رابطٍ جامع، تضيع الغاية كما تضيع البوصلة في يد من لا يعرف الجهات، فيمضي الكيان العامّ كجسدٍ يجهل أعضاءه، ويغدو النشاط الاقتصادي حركةً بغير مقصد، ومسيرًا بغير نهاية.
ثانياً: الاعتماد المفرط على المؤسسات الدولية: لا تُصلح أمور تلك الدول لا تقارير الغير ولا بيانات الخارج، لأنّ البصيرة لا تُستورد، والفهم لا يُقتنى من وراء الحدود. فالتدبير الذي يُبنى على رأيٍ غريبٍ عن الدار، كالبناء على أرضٍ لا تعرف طبائعها، ظاهره الصلابة وباطنه الوهن. ومن جعل فكره الاقتصادي رهنًا بأقلامٍ تُكتب في مجالس غيره، فقد أودع مصيره في يد من لا يراه إلا وسيلةً لمآربه. ولئن كانت المشاورة بين الأمم من سمات الرشد، فإنّ الارتهان إلى فكرٍ غير الفكر الوطنيّ ضربٌ من الغفلة يُفضي إلى التبعية، إذ لا يُمكن أن يُعبّر عن نبض الدول إلا من عاش في وجدانها، ولا أن يُقدّر مصالحها إلا من خبر طبائع أرضها وشعبها.
فالعقل الوطنيّ هو وحده القادر على أن يزن الأمور بميزانها، لا بما يُلقى عليه من معايير الآخرين. ومتى انقطع هذا العقل عن ذاته، تاهت الإرادة في دروبٍ لا مآل لها، وتحوّلت السيادة إلى شعارٍ يُرفع في الخطاب ولا يُرى في القرار.
ثالثاً: غياب منظومة التنسيق بين الجهات الاقتصادية: ليس موطن الضعف في قِلّة الموارد، فذلك عارض الزمان، وإنما في غياب العقل الذي يُحسن وصل هذه الموارد بخيطٍ من الفهم الراسخ والتقدير المتقدّم. فالثروة، ما لم يعضدها فكرٌ يوجّهها، تتحوّل من وسيلةٍ للبناء إلى مادةٍ للتيه، ومن نعمةٍ تُنمّي إلى عبءٍ يُثقل. وليس الخطر في أن تقلّ الإمكانات، بل في أن يضيع منها الاتساق الذي يُحوّل الكمّ إلى معنى، والمال إلى رؤية.
رابعاً: قصر النظر في القرار الاقتصادي: حين تُشيّد السياسات على أرقامٍ انقضى زمانها، وتُدار الخطط بما استُخرج من دفاتر الأمس، يغدو الغد مجهولًا، لا لأنّ غوامضه كثيرة، بل لأنّ من بيده القرار اعتاد أن يُفكّر بعد أن تقع الواقعة، لا قبلها. فالتاريخ لا يرحم من يسير وراءه، وهو يظنّ أنه يتقدّمه، والعاقل من يقرأ الحادثة قبل أن تُكتب، لا من يفسّرها بعد أن تُروى.
الآثار.. بين فقدان المبادرة وغياب الرؤية
أولاً: فقدان عنصر المبادرة: وإذا غدا القرار تابعًا للحدث، فقد ضاع لبّ السياسة، لأنّ التدبير إنما يُصان بسبق الفكرة لا باتباع الأثر. ومن ذلك تنشأ المفارقة بين من يُوجّه مسار الأشياء، وبين من تُوجّهه الأشياء نفسها. فحين يختلط على الدول الحدّ بين الاستبصار والاستجابة، تنقلب من فاعلةٍ في زمنها إلى متأثرةٍ به، ومن صانعةٍ للأحداث إلى متلقّيةٍ لها، فيغدو حاضرها امتدادًا للماضي لا مقدّمةً للمستقبل.
ثانياً: اهتزاز القرار الاستثماري وضعف القدرة على حمايته: ليس من الرشد أن يُساق الاقتصاد في عصرٍ متسارعٍ بعقلٍ وئيد الخطى، لأنّ البطء في الفكر أشد خطرًا من البطء في الحركة. فالأمم التي لا ترى أبعد من حواسّها الخمس تظلّ أسيرةَ ما تدركه عيونها وآذانها، لا تتجاوز ظاهر الأحداث إلى باطنها، ولا تميّز بين الصدى والصوت، ولا بين العرض والحقيقة. أمّا الأمم التي نضج وعيها واستوى عقلها، فهي التي اكتسبت حاسةً سادسة لا تُقاس بالحواس، بل بالبصيرة، حاسةً تُدرك التحوّلات قبل أن تُعلن عن نفسها، وتستقرئ ما تخفيه الوقائع في سكونها قبل أن تنفجر حركتها.
«الاستشراف الاقتصادي».. ضرورة سياديّة
وتلك هي الوظيفة العليا لما يُعرف باسم «الاستشراف الاقتصادي»، لا في معناهما الإحصائيّ أو الاكتواريّ الضيّقين، ولكن في معناها الحضاريّ الأشمل، إذ هي ذاكرة الدولة، التي تحفظ لها صورتها في المستقبل، وموازينها الخفية التي تُقدّر بها الأخطار قبل أن تستحكم، وتستشعر بها مواطن الضعف قبل أن تستعلن. فهي ليست جهازًا وطنيًا للرصد وحسب، بل آلة للفهم، تُدير بها الدولة عقلها الجمعي حين يغيب عنه الاجتماع، وتستردّ بها وحدتها الفكرية حين تتشعّب مصادر الرأي وتتناقض التقديرات. فمن امتلك هذا الوعي المسبق، ملك زمام الوقائع قبل أن تبلغه، ومن عجز عنه، صار رهينًا بها وإن ظنّ أنه يسيّرها.
رباعيّة المهمّة.. من الفكر الاستباقي إلى صناعة السّبل
أولاً: التحليل الاستباقي: وهذه الوحدة الفكرية ليست من باب الزينة الإدارية، ولا من زخارف التنظيم، بل من لوازم البقاء ذاته. فالأمم التي تجهل ما يجري حولها في مواردها وأسواقها، إنما تُقاد وهي تظن أنها تسير. ومن حُجب عنه علمُ تفاعلات الزمن، استُعبد به دون أن يشعر. فالحماية لا تُستمدّ من الحراس ولا تُستدرع بالجدران، بل تُبنى بالعقل الذي يرى ما وراء الجدران، ويقدّر ما يُوشك أن يحدث قبل أن يُسمع صداه.
ثانياً: الإنذار المبكر: ولذلك ينبغي أن يكون هذا الكيانُ الوطنيّ في قمّة البناء الإداري للدولة، متصلًا برأس الهرم الحكومي، لا تابعًا لجهازٍ من أجهزته. فوظيفته ليست أن يُعلِم بعد الفعل، بل أن يُنير قبل القرار، وأن يمدّ مؤسسات المال والفكر والتجارة بالرؤية الجامعة، دون أن يخضع لإحداها أو يتجزأ بحدودها. فالعقل الكلي لا يُدار بالأجزاء، بل هو الذي يُديرها، كما لا يُوزَّع النور على المصابيح إلا من مصدرٍ واحد.
ثالثاً: توحيد الصورة الوطنية: وليس الغرض من هذا الكيان أن يُصدر نشراتٍ تُزيّن التقارير أو تُغذّي الأرشيف، وإنما أن يُقيم وعيًا وطنيًا اقتصاديًا شاملًا، يجمع ما تفرّق من خيوطٍ بين الجهات، ثم ينسجها في صورةٍ كليةٍ تُرشد الدولة إلى الاتجاه، لا إلى مجرد الإحصاء. إنه عقلٌ يُقدّر المجهول قبل أن يطرق الباب، فيُعِدّ له العدة، فلا يُفاجَأ الوطن بما لم يُقدَّر له. فالتخطيط لما يُحتمل هو عين الفطنة، وأما الركون إلى ما هو يقين فغفلةٌ وادعة تسبق الخطر، وتُمهّد له طريق الدخول دون أن يُستشعر.
رابعاً: صناعة السيناريوهات البديلة: وحين يُقام هذا الكيان، ينتقل الاقتصاد من مرتبة المراقبة إلى مرتبة الرؤية، ومن موضع المتلقّي إلى مقام الصانع، فتتحوّل السيادة من لفظٍ يتردّد إلى فعلٍ يُرى، وتغدو الدولة قادرةً على تسيير مصالحها بميزان الفهم، لا بعشوائية الصدفة. إذ لا شيء أغلى من عقلٍ يُبصر الخطر قبل أن يتجسّد، ولا شيء أهون من ثروةٍ تُهدر، لأنّ الجهل تقدّمها خطوةً واحدة. فكم من دولةٍ تلاشى مالها لا بفقرٍ في الرصيد، بل بفقرٍ في البصيرة، وكم من أمةٍ حُفظت لأنها امتلكت عقلًا يَقِظًا لا ينام، يقرأ المجهول القريب بعين الفهم، ويُدير الزمن كما يُدير الحصيف دفّة السفينة في بحرٍ لا قرار له.
إنّ العاقل لا يضطرب أمام المفاجآت، لأنه يعيش في ظلال توقّعها، ويتّخذ من الحذر عادةً لا طارئًا. فالفطنة ليست في أن يتنبّه المرء لما وقع، بل في أن يستشعر ما يوشك أن يكون. وتجيء الحكمة الحقيقية حين تُحصّن الدولة نفسها بسلاح المعرفة قبل أن تستدعيها الضرورة، لأنّ من انتظر الخطر ليتأهّب له، كان استعداده جزءًا من تأخّره. وإنّ من أعجب ما يُرى في شؤون الأمم أنّ أكثرها مالًا قد تكون أقلّها يقظة، إذ كثيرًا ما تُخدّر الوفرة حسّ الحذر، فيغدو الغنى غفلة، والاطمئنان سُباتًا، حتى إذا تبدّل الزمن، كانت اليقظة حينئذٍ أثقل من الفعل. فالحذر هو السراج الأخير، الذي ينبغي ألا يُطفأ، لأنه وحده يُبقي للأمم فطنتها في وجه المتغيّر.
وللكويت، بما راكمته من تجاربٍ في المال والأعمال والإدارة، وبما خبرته من تقلّبات الدهر ومواسم المدّ والجزر، من القدرة ما يؤهّلها لأن تُبدع لنفسها هذا العقل الواعي، فتنشئ كيانًا وطنيًا يُعيد للتفكير مكانته قبل الفعل، وللتحليل موضعه قبل القرار. إنّها دعوة، إلى أن تُقام السياسة الاقتصادية على نظرٍ يتجاوز اللحظة إلى الأفق، وعلى وعيٍ يربط بين الحادث وأسبابه، وبين القرار وآثاره، وبين الثروة ومعناها في النفس قبل معناها في الدفاتر.
فالحكمة كلّ الحكمة أن يُبنى القرار على قراءة ما قبل الوقوع، لا على اجتهاد ما بعده. ومن غفل عن هذا الباب فقد أودع مصيره في يد الريح، مهما كانت جدرانه من حديد، ومهما ظنّ أنّه في مأمنٍ من الزمان. فالعقول التي لا تبصر البعيد محكومٌ عليها أن تعيش في المفاجأة الدائمة، وأمّا التي تُبصر، فإنها تَعبُر المجهول كمن يسير في طريقٍ يعرف تضاريسه وإن غطّاه الضباب.
فاللهم أبرم لهذه الأمة أمرًا رشدًا.
عبدالله السلوم